"حازم دياب"...قدره"يحيى"


عبدالوهاب شعبان | مصر - كاتب صحفي- جريدة الوفد المصرية

التجربة قائمة يا حازم، كما مرّت عليك سطورًا وأدعية، أجواء حب صافية، وخواطر حياتية راوحت بين القلق، والأمنية..
باقٍ أنت على أي حال، نعرف ذلك في تسمية (يحيى حازم دياب)..
(1)
إنني بكيت، تسلل الضيق إلى صدري حين تسللت روحه إلى براحها، وتأملت صورته الأخيرة في حضرة الكتب، والزوجة الوفية، سعادته بوداعة الأصدقاء،   -منهم من لا يعرفه إطلاقًا-، وكيف منحته الأقدار فرصة الفرح بمشاعر الحب الوافرة، رغم وفرة الألم..
وصلت رسائله، اليوم أكمل حكايته، وأتم"السيرة"، وعلى"هبة" استكمال المسيرة..
(2)
ليست هناك ميزة لدى الأطول عمرًا إلا من عاشها "حازمًا" منحازًا لـ"ضميره"، منتصرً لـ"إنسانيته"..
(3)
عزيزي يحيى:
 (أكتب لك دون حاجة لافتعال الرثاء، ولا عبارات منمقة للعزاء، لأنني أعلم أن الراحلين محظوظون بـ"طِيب الأثر"، وفي الصحافة قليل ما يبذل الناس مشاعرهم الصادقة لفقد زميل، ونادر جدًا من يترك خلفه مسحة وفاء باقية).
"حازم" لم يكن رقمًا في معادلة المهنة، وطرقاتها المعوجة، ولم يرضخ لمفاهيم "السبوبة" يا بنيّ، ترك الصحافة طائعًا حين غامت الرؤى، وحلت الضبابية، وانتصر لآدميته، ولم يشأ أن يقتصد في حلمه لصالح الإفراط في قواعد "لقمة العيش"، تتبع خياله الحالم، وانصرف عن طوابير انتظار "التعيين"، والأمان الوظيفي متكئًا على كتف والدتك، مستعينًا بيقينها، وروحه الحالمة.
أما والدك إذا ما ابتلاه ربّه فقدر عليه رزقه، استأنس ثوابته، وطرق بابًا آخر..
(4)
الكتابة تبقي الموهوبين مغروسين في الأرض، ينبتون إذا رحلوا..
وكان "حازم دياب" يا صغيري خارج سرب السائرين في الأحذية، في كل مراحله له قدم راسخة في المتاح، وعينان نافذتان إلى الممكن البعيد، ورأس تفيض بأسئلة المستحيل اللامحدود، تقاسم مع والدتك حلوها، فقاسمته آمال التجربة، وآلامها، واتفقا على السير معًا نحو البقاء في ذاكرة الكتابة، وحواديت الحالمين.
لمثل هذه اللحظة- لحظة الوداع - تهيأت والدتك مرات متعاقبات، وفي كل مرة تقطر النهاية نصًا بديعًا مقاومًا لليأس، مبشرًا بالنجاة، أراد الله أن تكون الرغبة قائمة دائمًا في الحياة، وبينما تدور في خاطره أسئلة"الموت" فإنه يكتب لمحبيه عن الرجاء، والأمل، ويروضّ شراسة القادم المنتظر، يرجوه انتظارًا حتى كتابة "اعترافات عن الحب والصداقة"، بعد تأريخ لتجربة الألم التي لم يستطعها غيره.
لديها يا "يحيى" ما سترويه لك، ولنا، فصولًا وارفة الظلال من أسراره التي لم يدركها البوح، ووصاياه التي تعينها على وصل ما انقطع..
(5)
في الصحافة لا تصنع السنوات بقاءً لأحد، بعضهم تجاوز الثمانين واسمه كـ" نقش على الماء".
ليس هناك ما يدعو لاستشعار الفقد، قطف "حازم" ثمار لذة التأمل مبكرًا قبل أن يرحل، تجول في مسارات الفلسفة، كتب عن حياته تفصيلًا، مشاعره، هواجسه، شغفه، عمله، حبه، وزواجه، عشنا معه أجواء المرض، جلسات العلاج، لحظات اللاوعي في غرفة العناية المركزة، رسم لنا صورة الهائم الغائم، النائم الذي لا يرى إلا طيفًا، ويصافح الموت في كل مرة إذ يتجسد له في صورة شخص طيّب الوجه، جميل الثياب، يلاطفه، ويستعطفه، علّمنا بالتجربة فضيلة الصبر المنبثق عن نفس راضية، لم تجزع، ولم تفقد الرغبة في ممارسة ما تحب، لإسعاد من تحب.
على جانب آخر من الحياة لا يستطيع منتسبون إلى مهنة الحرف كتابة سطر مفهوم، رغم حيازتهم العافية، وتلال من الأوراق، والأقلام، وفسحة الأيام.
بذلك يا يحيى يتبدد حزنك، ويتجدد فخرك بـ"حازم"..(لا رحيل لكاتب صادق)..
(6)
أمّك هبة..(والهبة يلزمها موهوب، وينتج عنها حكاية خالدة)..( كن أنت الحكاية)..
الحزن يا صغيري على مواقع التواصل الاجتماعي أغلبه مبتذل شأن كل شيء زائد عن الحد، متبلد كآداء واجب في سرادقات العزاء، أما الذي لدى جدتك فهو شجن معلق على حضورك، شغف أبدي بارتمائك في حضنها، ومزج من الأبوة، والأمومة لن يستشعره سواك، وهو المدى الذي يأويك، كما أنك مأواها.
لا تكف عن طرح الأسئلة على والدتك، استثر مشاعرها الفياضة، واقتبس من نور "حازم دياب" المطبوع في قلبها، كلما ذكرته في عبارة سترى في عينيها فيوضات الحنين، وآثار اليقين، وثنائية حب ملهمة تطورت عبر السنين.
(7)
 ينتمي والدك إلى جيل لم يتسع رزقه إلا في الفراق، قدر نؤدي فرائضه، وتهزمنا اختياراته، ورغم هذا نشعر دائمًا بالفخر لأقراننا الراحلين، لا نخجل من كتاباتهم، ولم تنكس رؤوسنا مواقفهم، ولم يساوموا طمعًا في مكسب عابر.
أريدك أن تعلم قواعد الرحلة (حين يرحل بعضهم يصعب على محبيه الإتيان بموقف واحد يضمن له الترحم عليه، يفتشون في سيرته فلا يجدون موقفًا إنسانيًا واحدًا، حالة رضا عابرة، واتساقًا ولو على سبيل الصدفة مع الذات، فيلجأون مضطرين إلى عبارة "اذكروا محاسن موتاكم"، أملًا في الكف عن لعنه).
(8)
وأود لو تعرف أيضًا أن الحب في قلوبنا طغى على الحزن، وأنّ عهدنا مع الإنسانية سنجدده كلما مرّ اسم "أبيك"، والرضا هو المعنى الذي استقر في وجداننا من كتابات "حازم دياب"..
لأمك الصبر الجميل، وللتجربة البقاء، ولك يا "يحيى" وبك كل الرجاء..
رحم الله حازم دياب

 

تعليق عبر الفيس بوك