قمة خليجية وعالم مُضطرب

حاتم الطائي

تلتئم اليوم القمة الخليجية التاسعة والثلاثون، في المملكة العربية السعودية الشقيقة، فيما تُواجه منظومة مجلس التَّعاون لدول الخليج العربية جملة من التحديات والقضايا المفصلية، سواء فيما يتعلَّق بالوضع الداخلي لدول المجلس والعلاقات الخليجية- الخليجية، ومستقبل المجلس، أو على المستوى الخارجي، والذي تتشابك فيه القضايا وتتقاطع مع بعضها البعض، محدثة تأثيرات عميقة على المجلس، وعلى مستقبله خلال السنوات المُقبلة.

الأحداث التي مرَّت بدول المنطقة أحدثت ندوبًا في طبيعة العلاقات وأفرزت متغيرات غير مسبوقة

تنعقد القمة وهي تضع جدول أعمال في ظاهره "روتيني" وفي باطنه غير ذلك، فالأحداث التي مرَّت بدول المنطقة خلال السنوات الأخيرة، تركت آثارها العميقة وأحدثت ندوبًا في طبيعة العلاقات بين الدول، إضافة إلى ما خلَّفته من تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية بل وصحية، وما أفرزته من مُتغيرات غير مسبوقة لم يعهدها إقليمنا خلال العقود الأخيرة. أجندة القمة المُعلنة ستناقش قضايا التكامل الاقتصادي ودفع مسيرة العمل الخليجي المُشترك وتسهيل الإجراءات فيما بين دول المجلس، علاوة على تدارس عددٍ من الملفات والقضايا الإقليمية. ورغم أنه لا أحد يملك الجزم بمزيد من التفاصيل حول مُستقبل العلاقات الخليجية، إلا أننا نأمل أن تشهد هذه القمة انفراجة في مسألة إنهاء الخلافات والاستماع لرأي الحكمة من خلال التأكيد على قوة العلاقات مهما شهدت من خلافات، يجب أن تزول، وأول آليات إزالة هذه الخلافات الجلوس على مائدة التَّفاوض والنقاش، لا اللجوء إلى معارك إعلامية تصب الزيت على النَّار وتؤجج المشاعر، وفي كثيرٍ من الأحيان يصل بها المدى إلى التغريد خارج السرب، ربما بصورة تضُر بالمنبر الإعلامي نفسه والدولة الداعمة له. وهنا نقطة بالغة الأهمية، أود تسليط الضوء عليها، وأدعو فيها زملاء المهنة في الإعلام أن يُسهموا بدور إيجابي في رأب الصدع وأن يكونوا عوناً على بناء جسور الوصل، وأن يكون ديدنهم الموضوعية والبعد عن الانحيازات التي تُهدد مصداقية دورنا نحن كإعلاميين، فالسبيل إلى منظومة إعلامية مُؤثرة، يتحقق عبر التَّحلي بالموضوعية وتفادي الانحياز وتحري المعلومة وعدم نشرها دون التأكد من مصدرها وإسنادها إلى ذلك المصدر، وهذه بديهيات نُمارسها في عملنا الصحفي دائماً.

عودة العلاقات الخليجية إلى طبيعتها باتت حتمية وملحة، في ظل عالم مُضطرب يموج بصراعات سياسية من شأنها أن تُغيِّر ميزان القوى في العالم والمنطقة، مع تنصل بعض القوى العالمية من التزاماتها الأخلاقية والقانونية ونكوصها على المواثيق والعقود الدولية المبرمة، إضافة إلى إجراءات اقتصادية حمائية وما تهدد به من حروب تجارية ستتكبد الثمن الفادح فيها الدول الأقل تنوعًا في الموارد والأكثر اعتماداً على عائدات النفط.. عالم يُعاني من نزعات شعبوية واحتجاجات عنيفة تهدد استقرار أوروبا، وتراجع مخيف في مستوى الثقة في القيادات والحكومات الغربية، إضافة إلى التهديدات الاقتصادية التي تلاحق الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا "البريكست"، واشتعال التوتر بين روسيا وجيرانها بين الفينة والأخرى، واحتمالات تصاعد الموقف بين أوروبا من جهة وروسيا من جهة أخرى على خلفية هذه التوترات، وغيرها من التَّحديات التي نخشى أن تؤثر بصورة سلبية على مستقبلنا في منطقتنا.

عالمنا مُثخن، إذن، باضطرابات وصراعات لا تُساعد على الاستقرار، بقدر ما تؤجج المواقف، فلا يكاد العالم ينتهي من إخماد مشكلة ما، حتى تنفجر أزمة أخرى في بقعة مُختلفة من العالم، فبعد أزمة الانتخابات الأمريكية وما شابها من شبهات، تطور المشهد عقب تغير ميزان القوى داخل المنظومة التشريعية في الولايات المُتحدة، وتعاظم نفوذ الديمقراطيين على حساب الجمهوريين، والجميع يترقب تأثيرات ذلك على السياسات الأمريكية في منطقتنا. ويتوازى ذلك مع الجوانب الاقتصادية، فبعدما تعافت أسعار النَّفط واستبشر الجميع خيراً ببدء الخروج من دوامة تراجع الأسعار وانعكاساتها على مسارات التنمية، عاودت الأسعار الهبوط بحدة لمُستويات غير مُرضية للدول المُنتجة، نتيجة لما تفرضه من ضغوط على المالية العامة لهذه الدول، تجبرها على الاقتراض والغرق في بحر الديون، وهي لعبة عالمية تستخدمها الدول العظمى المُهيمنة على مؤسسات التمويل العالمية، من أجل إخضاع الدول الأقل دخلاً وإلزامها بحزمة من القرارات الاقتصادية التي تخدم الرأسمالية في أسوأ صورها.

أبعد كل هذه التهديدات والصراعات، نملك رفاهية الخلاف في المواقف؟ هل باتت منطقتنا تتحمل مزيدًا من التشرذم في العلاقات؟ فالقوى العظمى تمكنت خلال السنوات الأخيرة من أن تُضعف الدول المركزية، سواء من خلال عمليات احتلال وغزو للأراضي الوطنية، أو عبر إنهاكها في دوائر العنف والاحتجاجات والديون التريليونية، أو الاستحواذ على مُقدراتها وثرواتها الطبيعية، وخلق تنظيمات إرهابية ترفع السلاح في وجه الدولة، وغيرها من التكتيكات والاستراتيجيات بعيدة المدى، التي لا غرض لها سوى إبقاء منطقتنا ضعيفة أوهن من بيت العنكبوت!

هذا يدفعني إلى التأكيد على نجاعة النهج العُماني، وتفرد السياسة الخارجية لبلادنا، والتي أرسى دعائمها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- والتي تُشدد دائمًا على أهمية بناء العلاقات وتطوير أواصر التعاون والحفاظ على قيم الشراكة والبناء بين جميع الدول، لاسيما وأنَّ سياسة السلطنة الخارجية تستهدف إقامة علاقات دبلوماسية مع جميع دول العالم، وأن تتطور هذه العلاقات لمستويات تدعم تطلعات الشعوب وتلبي الاحتياجات المشتركة. السلطنة دائمًا تؤكد رفضها التام لتدخل أي دولة في شؤون دولة أخرى، وتحث على ضرورة أن يظل باب الحوار والنقاش مفتوحًا، وأن يكون حل الخلافات عبر موائد التفاوض، فالشعوب دائمًا تنتظر من القادة اتخاذ ما من شأنه أن يدعم مصالحها، وبكل تأكيد لا مصلحة من وراء خلافات تدب هنا أو تنشب هناك.

ويبقى القول.. إنَّ التحديات- كما أكدنا- تتعاظم، والجميع يترقب من القمة الخليجية أن تخرج بقرارات تساعد على تجاوز تلك التحديات والتخلص من العراقيل، وترميم العلاقات الخليجية- الخليجية، فالمستقبل يستلزم وحدة الصف، وتحقيق التعاون المنشود على أكمل وجه، وعودة العلاقات البينية لسابق عهدها، دون فرض إرادات أو إملاءات أو وصاية على أحد، ودون استهداف إعلامي من أي طرف ضد آخر.. فهل تحقق القمة بعضًا من التطلعات التي ينتظرها الشعب الخليجي؟! الأمل قائم متى ما توافرت الإرادة.