حداثة الحداثة الفنية في "الراسخون في الحب" لـ"عمر هزاع"


أيمن منصور الجملي | مصر - باحث وناقد أدبي


إن الوضع الحالي الذي تسير فيه الحداثة الآن يفرض على الباحث الوقوف علي شاعر اطلع علي الشعر في كل عصوره بدايةً من العصر الجاهلي لينتهي به المطاف وقوفًا على عصرنا الحديث وما طرأ عليه من تغيرات, بداية من الثورة التي انقلبت على النمط الكلاسيكي وأبدلته ثوبًا جديدًا في ثمة صور أهمها الشعر الحر (التفعيلة) وقصيدة النثر وما بعد قصيدة النثر, ومن خلال ذلك يعبر الشاعر عما يريد التعبير عنه من خلال امتصاصه الموروث لإعادة إفرازه في حداثة تهتم بتطوير القصيدة العربية وفق معجمٍ جديد وصور بكر وموضوعات تحمل في طياتها بناء الإنسان قبل أي شيء, ومن ثم فإنه يستطيع أن يرى العالم ويعيد تشكيله فنيًا وأدبيًا بأدوات إبداعه, وبذلك لا تكون الحداثة اختلافًا وخروجًا على المألوف وما كرّسته التقاليد الشعرية, وإنما تطورا طبيعيا لما يحتاجه الزمن من تغييرات جوهرية.
وهذا ما وجدته في ديوان (الراسخون في الحب), فالشاعر هنا يستخدم لغة قوية رصينة وسهلة على أذن المتلقي في نفس الوقت, وهذه اللغة كانت بعض الوقت مقتطفة من أفواه الناس، ولم يتخلَّ عن الوزن الشعري في كل قصائد الديوان - حتى في النمط التفعيلي الذي مارسه في بعض القصائد - مرورًا بعد ذلك بالرمز المقبول عند ذائقة المتلقي على عكس بعض الشعراء الذين استخدموا الرمز كأداة فنية لا مبرر لوجودها إلا زيادة غموض القصيدة بدعوى حداثويتها. وهو بذلك لم ينفِ القديم وإنما أقام بناءه على علاقة تضافرية معه هي في صميمها علاقة جدلية ولكنها في النهاية تمثل تواصلًا لا انقطاعًا، واتصالًا لا انفصامًا.
والجميل أن الشاعر أجاد إذ ابتكر شكلًا جديدًا يجمع بين الرقة والفظاظة والوحشية والبراءة, وبذلك وظف الموروث من التقاليد الشعرية في ثوب حداثة الحداثة.
حتي أننا نرى أنه إذا تحدث عن الحب يهمس بأسراره العميقة التي يصبح المحب في أغوارها محبوبًا ويؤكد من خلال ذلك قدسية الإنسان في مواجهة قوى القهر والامتهان الكونية من موتٍ واشتياقٍ ومحدودية، وقدرته على الخروج من عزلته ووحدته المحتومة عن طريق الذوبان في الآخر.
ولم يكتف الشاعر بالحدود البلاغية المعروفة مثل: الاستعارة؛ المجاز؛ التشبيه؛ للتعبير عن حالته الشعورية في قصائد "الراسخون في الحب" بل استحدث قيمًا فنية وجمالية جديدة تنبع من ثقافته وتستند إلى وعيه بحركة التاريخ البشري والحضاري فأصبحت الأسطورة والتاريخ والقناع والرمز من أدواته التي استعان بها إلي جوار الأدوات التقليدية، مستخدما أكثر الفنيات البنيوية قدرة على التأثير والإدهاش, فالقصائد في هذا الديوان جواهر دقيقة الوزن مختارة بعناية في عقد متماسك وفريد فلا حشو ولا ترهل, بل أسلوب ماتع كثيف وإيجاز بلاغي ينوب فيه الصمت كثيرًا عن الكلام ويحكي فيه المسكوت عنه أكثر مما يحكيه المنطوق به, إضافة للعديد من الأساليب الفنية الأخرى المستخدمة بعيار دقيق ومهارة فائقة تختزل تجربة شعرية طويلة وتشي بقدرة عالية على الابتكار.
ولم تقف حداثة (الراسخون في الحب) عند الشكل والمضمون فحسب, بل كان من أفضل ما يميز هذا الديوان الصور البكر التي تدل على ثقافة الشاعر الواسعة وطريقة فلسفتها شعريًا وإنسانيًا وفنيًا, وقد تنوعت ما بين صور بصرية ولونية وسمعية .. إلخ.
وعلي سبيل المثال قصيدة (فرات) التي كانت مزيجًا من الصور اللونية والصور السمعية حيث يقول :

وَفُراتٍ
كَشَهقَةِ الأَنفاسِ
يَتَهادَى
بِهَمهَماتِ الآسِ
وَخَرِيرٍ حُداؤُهُ؛ مِن كُبُودٍ لِكُبُودٍ؛ كَرَنَّةِ الأَجراسِ
سَعَفاتٌ مِنَ النَّخِيلِ تُدَلَّى كَالثُّرَيَّاتِ
بِالهَوى المَيَّاسِ
وَالجَرادِيقُ؛ تَحتَها؛ تَتَقَفَّى غَمزَةَ الظَّبيِ بِاللِّحاظِ النِّعاسِ
إِذ يُطَوِّحنَنا بِها بَينَ مُلقًى ذاهِلِ أَو مُؤَرجَحٍ كَالنُّواسِ

فإذا أخذنا الصورة بطابعها العام في هذه القصيدة نجد أنها اتخذت عدة أشكال، وجاءت على أنماط مختلفة في بنائها الفني:
فنمط الصورة البصرية في المقطوعة السابقة يمنحها حيوية لأنها تدرك عبر البصر.
بالإضافة للصورة اللمسية التي تحتاج إلى إثارة أكثر من حاسة لتتم. وغالبًا ما تتوافق مع الصورة البصرية ليكتمل تأثيرها على أذن المتلقي.
أما من الناحية الموضوعية فإن المتمعن في الديوان يجد تطرق الشاعر في (الراسخون في الحب) لموضوعات عديدة تنبثق عن مفهوم الحب وتنفتح على آفاق فسيحة منها: العشق والحب الأسري (الأم, الولد, الزوج) وحب الوطن والحب الإلهي وحب الإنسانية جمعاء والأمل والرثاء والعتاب .. إلخ
وقد أجاد الشاعر ببراعة فائقة خلط عدة عدة أغراض في قصيدة واحدة كما فعل بخلط الرثاء والعتاب في قصيدة "قاتل", ولم تكن الأولى في تعداد قصائد الرثاء في هذا الديوان بل سبقتها قصيدة "عيد الهم" التي كانت أيضا رثاءً لأمه.
والرثاء في تجربة الشاعر له طابعه اللاذع ونكهته المريرة - كتجربته في المنفى عن الوطن - وهو من موضوعاته الذاتية التي ترتبط بتجربته ارتباطًا عضويًا وثيقًا وتشكل منعطفًا فارقًا في تغيير بوصلة أغراضه الشعرية, وشاعرنا هنا مزج بين العتاب والرثاء إذ وقف أمام نفسه ليعاتبها لأنه يرى أنه السبب في انقلاب سيارته التي كان يقودها بنفسه والتي نجم عنها وفاة والدته إثر تلك الحادثة المحزنة والداهية الرهيبة.
وببراعة شديدة وإنسانية سيالة وفاءً وحزنًا وجلدًا للذات وصف حالته الشعورية بأسلوب يليق, إذ يقول:

أَطِيلِي عَلَيَّ النَّوحَ
إِنِّيَ راحِلُ
وَقَلبِيَ مَفطُورٌ
وَعَقلِيَ ذاهِـلُ
أَطِيلِي أَطِيلِي النَّوحَ؛ أُختاهُ؛ قَد مَضَى زَمانِيَ
وَانصَبَّتَ عَلَيَّ نَـوازِلُ
بِكفِّيَ أَشرَبتُ المَنِيَّةَ
لِلَّتِي بِمِيتَتِهـا قَلبِي؛ مِنَ اليَأسِ؛ ذابِلُ
لَوَ انِّيَ أَدرِي؛ وَهْيَ رُوحِي؛ بِأَنَّنِي أَسِيرُ بِها لِلمَوتِ كُنتُ أُماطِلُ
وَلَكِنَّنِي ساهٍ
وَحَظِّيَ عاثِرٌ
وَأَمرِيَ مَقدُورٌ
وَفِكرِيَ غافِلُ
دَعِينِي لَها أَمضي
بِنَفـسٍ هَزِيمَةٍ
كَسُنبُلَةٍ فَـزَّتْ إِلَيها مَناجِلُ
دَعِينِي لَها أَحكِي حِكايَةَ بُرعُمٍ
ذَوَى بِرَبِيعِ العُمـرِ
وَالوَقـتُ قاحِلُ
دَعِينِي عَلى حَرِّ الرَّزايا بِعُزلَتِي
أُقَلِّبُ جَمرًا أَدمَنَتهُ الأَنامِلُ
فَأُحرِقُنِي لَومًا وِأَنسِفُ مُهجَـتِي وَأَنزِفُنِي حَتَّى يُسَرَّ العَواذِلُ
يُهَدِّدُنِي التَّنزافُ أَنِّي قَتِيلُهُ
وَلَيتَ؛ إِذا ما هَدَّدَ؛ النَّزفَ فاعِلُ
فَكَيفَ يُقِيمُ الصَّبرُ أَركانَ عَزمِهِ لِيَحتَمِلَ الضَّرباتِ؟
وَالصَّبـرُ آيِلُ!   
تَمُرُّ بِي الذِّكرى
فَتَصطادُ عِلَّتِي لِتَنكَأَ جُرحًا بِالدِّماءِ يُسائِلُ
وَمـا كُنتُ بِالتَّـسآلِ إِلَّا مُلَعثَـمًا يُعَذِّبُهُ التَّجوابُ
وَالـرَّدُّ جاهِلُ
وَقَفتُ عَلى الأَجداثِ
كَلمى حُشاشَتِي تَئِنُّ
وَدَمعِي بِالحَرائِقِ هاطلُ
فَما أَبصَـرَتْ عَينايَ إِلَّا هَـلاوِسِي
وَلا اغتالَنِي إِلَّاكِ؛ يا أُمِّ؛ غـائِلُ
وَطَوَّفتُ حَولَ اللَّحدِ
وَاللَّحدُ مُصرِخي:
لَعَلَّكَ قَـد نُسِّيتَ أَنَّكَ قاتِلُ!  
فَرَدَّتْ عَذاباتُ احتِضارِي بِحُرقَةٍ:
وَكَيفَ لِيَ النِّسيانُ؟
وَالمَوتُ شاغِـلُ!
أَمِثلِيَ مَن يَسهُو؟!
وَمِثلُكَ ذاكِرٌ؟!
وَمِثلِيَ قَطَّاعٌ؟!
وَمِثلُكَ واصِلُ؟!  

هذه محاولة سريعة ونظرة خاطفة لتسليط ومضة على شاعر مبتكر وتجربة شعرية فريدة وديوان أنيق يقدم فنًا جديدًا يليق بذائقة القارئ ويعيد بناء الإنسان على أسس متينة من النبل والوفاء والنقاء, ويفتح الطريق أمام الشعراء لمزيد تطوير للقصيدة العربية ولحداثة حداثة يستحقها الشعر من أبنائه البررة.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك