حضرتك دكتور؟!

 

د. سمير محمود

كاتب صحفي مصري

قضية الشهادات والدرجات الجامعية المزورة ليست وليدة اليوم، ولا نتاج الجدل الدائر على تويتر، القضية أقدم من تويتر بعقود؛ والزخم الدائر بشأنها على منصات التواصل هو إعادة تحريك لساكن تسلل بليل أو نهار لا تفرق، حتى احتل موقعًا لا يستحقه، ومنصبًا لا يمتلك الحد الأدنى من مؤهلاته، وهذا المتسلل مع الأسف ليس فقط من الوافدين على هذا البلد أو ذاك، وإنما من بين المواطنين أيضًا.

المآسي عديدة نعم، والآثار السلبية لتلك الآفة لا حدود لها أكيد، لكن الأكثر خطرًا هو التشكيك في الجميع، وتسييس القضية واستغلالها للتشهير برموزنا سواء أشخاص أو كيانات علمية ومجتمعية مرموقة، فالمتابع لما يثار عبر منصة تويتر خلال الأيام الفائتة، يلمح حملات لمز وغمز، وتصيد في الماء العكر، وتشكيك واضح في جامعات ومؤسسات بعينها؛ نتفق أنّه لا أحد فوق القانون والمحاسبة، ولا أحد فوق مستوى النقد، ولا قداسة لأي إنسان أو كيان تردى في فساد واختطف مالا يستحق عبر التزوير، هذه ثوابت نلتزم بها، ونزيد عليها بالتشديد على ضرورة إعادة الثقة في مؤسساتنا الوطنية، ومساعدتها في دورها الحيوية لمواجهة المزورين المدعين سواء من الوافدين أو أبناء الوطن، فالخطر مشترك والحصاد مر والفاتورة باهظة يدفعها الجميع دون استثناء.

نحن أمام كرة ثلج ملتهبة تدحرجت من الكويت إلى البحرين، ومنها للإمارات فسلطنة عمان، وقبلها المملكة العربية السعودية والقوس مفتوح ليضم مصر والسودان وباقي البلدان العربية دون استثناء.

الأمر لا يستهان به، فالتعليم قضية أمن قومي، والعبث أو التلاعب به خطر فادح تمتد آثاره لأجيال وأجيال، ولست بحاجة لسرد كم المآسي المترتبة على تزوير الشهادات والدرجات العلمية، فأعداد ضخمة من الخريجين يتم تشويههم وتجريف عقولهم والإخلال بمتطلبات إعدادهم وتأهيلهم وتكوينهم العلمي، مرورًا بالافتئات على حقوق الآخرين المستحقين لشغل مواقع ومناصب مهمة سواء أكاديمية أو قيادية في مفاصل الدولة وقطاعاتها المختلفة، ناهيك عن تشويه سمعة دول وسمعة قطاعات عريضة من حملة الدكتوراه والماجستير ممن سهروا وتعبوا وجدوا واجتهدوا حتى نالوا تلك الدرجات عن جدارة واستحقاق.

يؤثر هؤلاء المزورون حتمًا على مستوى التعليم ومخرجاته، ويمتد أثرهم شئنا أم أبينا إلى المستوى العام للمؤسسات التعليمية الأكاديمية ومن جامعات وكليات ومعاهد، سواء في التصنيف الدولي أو حتى مستوى الجودة الذي تقف عليه هيئات الاعتماد المحلية والدولية، وصولًا إلى التأثير على سوق العمل.

هناك عبر التاريخ، جامعات وهمية في أوروبا الشرقية وروسيا وبعض دول شرق آسيا، وهناك جامعات قائمة بالفعل لكنها غير معتمدة وشهاداتها غير معادلة وغير معترف بها، وهناك دكاكين وأرصفة و"بسطات" لبيع الشهادات والدرجات العلمية المزيفة وبعضها لجامعات المراسلة والأون لاين والإلكتروني التي تحمل أسماء دولية رنان، وأختام بارعة التصميم، وتصدر شهادات لا تساوي في قيمتها الحبر الذي كُتبت به.

أمّا أسوأ أشكال التزوير، فهي دكاكين إعداد مشاريع التخرج والخطط البحثية وتفصيل وكتابة البحوث ورسائل الماجستير والدكتوراه الجاهزة في مختلف التخصصات للغير، مقابل مبالغ يُتفق عليها بين البائع والمشتري؛ منصة تويتر تحفل بمئات الإعلانات والتليفونات عن هذه الدكاكين، وكذلك الملاحق الصحفية الإعلانية المجانية وأبرزها الوسيط، دون خجل أو خوف؛ وفي هذه الحالة نحن أمام رسالة علمية بالفعل- (بغض النظر عن قوة محتواها أو مستواها) - ونحن أمام شخص طُبع اسمه عليها، وربما سجلها لنيل الماجستير أو الدكتوراه في جامعة عريقة ومرموقة ومعترف بها؛ لكن هذا الشخص لا يعرف عنها أي شيء سوى آلاف الريالات أو الدولارات التي دفعها للحصول على الدرجة، وربما أعد هذه الدراسة المشرف العلمي أو أحد مساعديه وتلاميذه،  وهو بالطبع لا يمثل إلا نفسه وقلة منحرفة تغيب ضمائرها حين تحضر الريالات والدولارات؛ وتلك جريمة كاملة متكاملة الأركان!

وفي عمان دائرة يقظة لمعادلة الشهادات الأكاديمية والتحقق منها، تتبع التعليم العالي، رصدت فقط في الفترة من (1975-2018) حوالي 1250 حالات تزوير، منها 1117 أختام مزورة على محررات وشهادات ووثائق ومستندات، و108 حالات تزوير مؤهل، و25 حالة مؤهل من مؤسسات وهمية؛ تلك الأرقام كاشفة ومتى تقع في يد الدائرة، تحيلها إلى الادعاء العام مباشرة وتخطر وزارتي الخدمة المدنية والقوى العاملة، وكذلك الهيئة العامة لسجل القوى العاملة بالدعوى، وفي دول الجوار الخليجية تم تجريم أصحاب الشهادات المزورة، وسن عقوبة السجن سبع سنوات مع الشغل والنفاذ في دولة الكويت مع رد ضعف الرواتب التي تقاضوها من مناصبهم التي عملوا فيها بمقتضى شهاداتهم المزيفة، وفي السعودية تصل العقوبة للسجن ثلاث سنوات والغرامة 300 الف ريال سعودي، وفي البحرين توقع غرامة على المزورين من 1500 – 4000 آلاف دينار بحريني، وفي الإمارات صدرت قرارات مغلظة لفحص الشهادات والدرجات العلمية واعتمادها سواء للعاملين فيها بالفعل أو المتقدمين لوظائف بها، كإجراء استباقي.

جهات وإجراءات التحقق من الشهادات والدرجات العلمية في عالمنا العربي عديدة، ومع ذلك حالات التزوير في تزايد، ما يستوجب حلولًا جذرية رادعة على مستوى قطري وإقليمي ودولي موحد، فالذي دفع آلاف الريالات مقابل شهادة أو درجة هو مزور، والذي تقاضى المبلغ نفسه هو مزور أيضًا، والذي غض الطرف أو خُدع واعتمد الشهادة والدرجة هو شريك في الجريمة، سواء بقصد أو دون قصد، وما دامت هناك جهات تجاهر وتعلن عن خدمات إعداد وتوثيق واعتماد وبيع شهادات ودرجات علمية لحفنة من الباحثين عن الماجستير والدكتوراه مع ألقاب أخرى مثل المستشار والخبير؛ فهناك بالمثل بيزنس كبير للتربح عبر إصدار شهادات جامعية وهمية تستهدف قطاعات كبيرة من شباب الأمة، وهنا الخطورة أفدح والأعداد أضخم لهؤلاء الضحايا من الكسالى البائسين والباحثين عن صعود سريع، الذين اختاروا أولى خطواتهم في مشوار الحياة بالتزييف والتزوير.

الأمر لا يجب أن يقف عند عتبة محاسبة المزيف المزور بإنهاء خدماته أو ترحيله إذا كان وافدًا، وإنما يستوجب جهدًا جماعياً، من جميع البلدان العربية، وبلدان الخليج العربي تحديدً، أكثر المتضررين من هذه المشكلة وأكثر ضحاياها وزبائنها أيضًا.

هناك بوليس دولي هو (الانتربول) يتتبع المجرمين عبر الحدود، وهناك اتحاد المراكز الطبية المعتمدة لدول الخليج (جامك) للفحص والتأكد من السلامة الصحية للمتقدمين للعمل بهذه الدول للوافدين من خارجها، ألا يستحق التعليم والصروح والقلاع العلمية العربية من جامعات وكليات ومعاهد، جهة اعتماد وتحقق إقليمية ودولية هي الأخرى، تفحص وتفرز الشهادات والدرجات العلمية، وبحيث يتجاوز دورها دور السفارات والقنصليات والملحقيات الثقافية التي تختم بصحة توقيع وصحة ختم جامعة ما، دون أدنى علاقة لها بمحتوى الشهادة أو الدرجة التي تختم وتصادق على صحة أختامها وتوقيعاتها؟!

المقترح يختص بطرح آلية إقليمية ودولية عبر مجلس اعتماد إقليمي خليجي عربي أولًا ودولي لاحقًا لفرز وفحص واعتماد وإقرار الشهادات والدرجات والمعادلات بكل شفافية ونزاهة، وإعلان نتائج الفحص على الملأ عبر منصة رسمية وبشكل دوري، حرصًا على سمعتنا العلمية العربية وحماية للمخدوعين ضحايا الأسماء الرنانة للجامعات الوهمية، وتحذيرًا لدول أخرى من عواقب التعامل مع هذا المزور أو تلك.

الأمر ليس ترفًا، وليس سعيًا لمزيد من التعقيد والبيروقراطية عبر أختام إضافية، وإنما هو بالأساس انتصار للمستحقين غير المزورين، وانحياز للمصداقية والموثوقية والسمعة العلمية العربية التي تأثرت كثيرًا في الآونة الأخيرة، بسبب قلة منحرفة من المزورين!

تعليق عبر الفيس بوك