أما لهذه المهزلة من علاج؟!

 

د. صالح الفهدي

 

التعليمُ في كلِّ أُمةٍ منهاجُ تقدمٍ، ودستورَ مصير، فالأمَّةُ التي تعي قيمتهُ ترقى، ويصبحُ لها شأنٌ تفاخِرُ به بين الأُممِ، أمَّا التي أضعفت من قيمتهِ، وتعاطت معه بالمفهومِ السَّاذج المقتصرِ على فكِّ الحروفِ، ونطقِ الكلماتِ، وترديد الحفظِ فتلك لا تبارحُ مكانها في مسعى التنوير، وانطلاقِ العقل نحو فضاءاتِ التفكير، والإنتاج.

إنَّ قيمة التعليم تكمنُ في منح العقلِ المفاتيح الأُولى ليتوسَّم طريقه نحو تشكيلِ واقعه، وفتح آفاقٍ جديدة، وترسِّم طرقٍ جديدةٍ للإنسانية، فإن فَقَدَ هذا الهدف السَّامي فقد أضاعَ معناه، إذ حصر العقل في دائرةِ الترديد، والترجيعِ، والحفظِ والنقل، وتلك مثلبةٌ عظمى لا تغتفر..!

ولقد أزرى بالتعليمِ في مجتمعاتنا ما شَابَهُ من استخفافٍ به أدَّى إلى إلحاقه بما تعشَّقته هذه المجتمعات من حبِّ التمظهر، وعشق الوجاهةِ، فكان العلمُ ضحيَّةً وأيُّ ضحيَّة!!.

لقد تهكَّم بالعلم سفهاءٌ في مجتمعاتنا فاشتروا الشَّهادات الوهميَّة التي رأوا فيها تعويضاً عن نقصٍ استبدَّ بهم، إذ لم يُعالج المال عقد نقصهم، ولم يرفعهم وجاهةً عند النَّاسِ، فلم يجدوا سوى العلم رداءً لوجاهتهم، لكي يرتقوا مرتبةً بين النَّاس بفضلِ شهادةٍ مشتراةٍ دون جهدٍ، أو أُخرى وهميَّة لا تغني ولا تسمنُ من جوع..!

ولا تعودُ أسبابُ هذا النُّزوح المحمومِ إلى وهمِ الشهادات، وبريقِ الألقاب إلى ما ذكرته من حبِّ التمظهرِ، وعشق الوجاهةِ وحسب بل إنَّ هناك مشكلةٌ تتعلَّق بمنهجية التعليم نفسه، وهي أعمقُ جذراً، وأبلغُ أثراً..! ولا شكَّ أنَّ أحد أهم ركائز التعليم أن يخلق شخصيَّةً عصاميّةً، تُدركُ أنها مسؤولةٌ عن بناءِ نفسها، بناءً أصيلاً لا بناءً مظهرياً خدَّاعاً من أجل التسلُّقِ في المراتبِ والمناصب، فإن فَقَد التعليم بوصلة هذا الاتجاه فقد أنتجَ شخصيات هشَّة، تعتمدُ على غيرها في تحفيظِ الدروس وتلقين الشروحات، وأداءِ الواجبات، وإنجازِ البحوث، وهذا هو ما يحدثُ في الغالب إذ إنَّ من ينجزُ الأولى هم المعلِّمون ومن ينجز الثانية هم أولياء الأمور.

فكم من أُمِّ أعيتها وأرهقتها الواجبات التي تتراكمُ على أبنائها لأنها هي التي تقضي وقتاً في المكتبات (التي تدرُّ دخلاً وفيراً من ذلك المسلك) لعمل المشاريع والبحوث المدرسية، وهي التي تبذلُ جهداً لإنجازِ الواجبات المنزلية. وهذه ثقافةٌ أورثت وضعاً غير صحيِّ ينحرفُ بالتعليم عن وجهته البنَّاءة، الأصيلة. ويبدو أن ذلك شائعٌ في مجتمعاتنا – بسبب منهجية التعليم السائدة- التي تعلمُ عن ظاهرته لكنها تغضُّ الطرفَ عنه..!

تقول الأكاديمية السعودية د. خولة الكريع في منتدى الغد: تعلّمتُ درساً من معلّمةِ ابني في أمريكا، فقد كنت أثناء وجودي هناك أمارسُ الضغط على ابني في أداء الواجبات ليكملها بامتياز ودون تأخير ليحرز أفضل النتائج، فقالت لي المُعلمة الأمريكية: إنني أرى الواجبات المدرسية تحلُّ بانتظامٍ كاملة دون نقص .. قلت لها: أنا أساعده في حلّها وأضغطُ عليه.. فقالت المعلمة: من الخير له أن يحرز مستوى (ب) وقد اعتمد على نفسه من أن يحرز (أ) وهو معتمد عليك!!

وللمحلل الرابطِ بين تسلسلِ الممارسات والسلوكات أن يربطَ بينها، فالطالبُ في المدرسةِ يعتمدُ على أمِّه –في الغالبِ- لحلِّ واجباتهِ وأبحاثهِ، ثم حين يكبرُ ويصبح طالباً جامعياً فإنِّه ينشأ على ما تعوَّد، معتمداً على غيره، فيؤجِّر من ينجزُ له أبحاثه ودراساته، ورسالته، وحين يتطلَّع إلى الشهادات العُليا يكون قد استسهل الأمر، وفهم الحكاية فيؤجِّر من (يضبِّط له الدنيا) بكلِّ ما يحتاج من وثائق رسمية، معتمدةٍ ومختومةٍ وعندها ينتهي المشوار بعد أن ينال مُبتغاه..! بيد أن من يحصل على شهادة عُليا في الغربِ يقال له: مرحباً بك في نادي الباحثين.

لا مصلحة مادية للمدارسِ أن تستلم أبحاثاً ومشاريع منجزةً من طلاَّبها، لكنَّ الأمر يبدو وكأنَّما هناك تسليمٌ بالتراضي المسكوت عنه على هذه الممارسات التي ترهقُ أولياء الأمور، ثم لا تفيد الطالب، ناهيكم عن أنها تستهلكُ وقتاً من المعلِّم نفسه. وقد يسأل سائلٌ عن البديل، أقول له: فلتكن في البرامج المدرسية حصة حرَّة للبحوث ذات زمنٍ مضاعفٍ عن الحصص الأخرى ليبحث فيها الطالب بإرشادٍ وتوجيهٍ من معلِّمه ما طلب منه من بحث حتى يتعلَّم أصول البحث، ويمتلك منهجية إجراءِ الدراسات، وما يتبعها من تحليل وتفسير واستخلاص فتغنيه عن أداءِ بحث أو دراسة أو واجب خارج وقته الدراسي.

أمَّا الكليات والجامعات التجارية فتقفُ أمام خياراتٍ عويصة، فهي تُدركُ أنَّ الطلاب لا يمتلكون الأدوات والأسس التي تمكِّنهم من الاعتماد على أنفسهم في إجراء الدراسات والبحوث النظرية بسببٍ خلل في منهجية التعليم، والاعتماد على الآخر في أداءِ أبحاثهم، أما السبب الآخر فمرتبطٌ بالأول فالكليات والجامعات تدرك أنها إن اتخذت من الحزم منهجاً مع الطلاب في إلزامهم بإجراء البحوث بأنفسهم فلن يكون ذلك لصالح وضعها الماديِّ إذ يتعثَّر الطلاب، ويعزفون عن مواصلة التعليم، أو يتوجَّهون إلى مؤسسات أخرى لا تكترثُ لأمرِ البناءِ الحقيقي للطالب..! فيصبحُ الانتصار للمادةِ هو المقدَّم على بناءِ الفردِ المتمكِّن من بناءِ قدراتهِ.

وهنا فإنني لا أُلقي اللَّوم على الطالب أو المعلِّمُ فمن لم يُبنَ أساسهُ على قاعدةٍ مكينةٍ فلا يُمكنُ لومهُ على مخرجات ذلك البناء الهشُّ من الأساس..! وأعني بذلك المنهجية الشمولية للتعليم.

الأمر الآخر أن التعليم إن بُني على أساسِ العمل فقط فإنّه سيقرُّ مبدأ "الغاية تبرِّرُ الوسيلة" فتصبح الغاية هي الشهادة بأي حالٍ من الأحوال من أجل اقتناصِ وظيفة، أو الترقي لمرتبةٍ أرفع، أمَّا الأساس الوطيد الذي يجب أن يُبنى عليه فهو أنَّ التعليم يجب أن يكون من أجلِ التعليم، أيَّ من أجل بناءِ النَّفس، وسعةِ المدارك، وتحفيز العقل، وترقية الذائقة الإنسانية، وتزكية الضمير، وإلهام الخيال الشعوري، وإغناء الوجدان.

إنِّه لذنبٌ عظيمٌ أن نرى مزوِّرين يتبوأوون مناصبَ مختلفة، ومجتهدون نالوا أرقى الشهادات لا يجدون لهم فرصةَ عمل، أو أنهم مهمَّشون خارج نطاق الاهتمام..!

وإنه لجرمٌ جسيمٌ أن نرى من قضى سنواتٍ في التغرب وهو ينهلُ العلم من أرقى جامعات العالم، يساوى بشهادات جامعات ضعيفة المستوى، سيئة السمعة..!

وإنه لخطأ فاحش في حقِّ التعليم أن يتسلَّقَ في درجاته السفيه، ويتلفَّع بردائه الجاهل، ويتشدَّق به الرويبضة، ويتباهى به الطائش، ويتفاخر به الخاوي..

فمن سيُعلِّم أبناءَ الأمة، ومن يطبُّ مرضاها، ومن يداوي جرحاها، ومن يخطط لعمرانها، ومن يفكر لمستقبلها، ومن يصون مقدراتها، ومن يحفظ تاريخها، ومن يعتني بهويتها، ومن .. ومن ..!! إن مصير أمَّة بحالها معقودٌ بهذه الإجابات، ومرهونٌ بمعالجتها علاجاً حقيقياً ليس ابتساراً ولا ترقيعاً..! إن وضعاً كهذا لا أجدُ ما أطلقُ عليه سوى المهزلة، تلك التي لا يفصلُ فيها اللبيب بين الهزلِ والجد..! فتمعنوا يا أولي الألباب في وضعنا اليومَ وبعد سنواتٍ من الآن.