الشريط الأحمر


نهى الطرانيسي | الدوحة
سيطر الظلام وتعالى وأعلن عدم رضوخه إلى الرجوع خلفا؛ لظهور الشفق ذي الألوان المختلطة، على النقيض سيطر شريط أحمر على الجهاز المرئي حتى أصبح للناظر من بعيد واضحا جليا من نوافذ المنازل.
(بدأ إعداد الرحلات للكوكب الجديد والاستقرار فيه، من يود فليبادر بالحجز لبدء حياة جديدة).
استقرت الشمس.. صفارة سخان المياه.. جمع أطباق الإفطار.. تجهيز حقائب الأطفال.. دبيب الأرجل نزولا هرولة على الدرج، تتنهد الأم للانتهاء مرسلة نظرة لزوج يتابع باهتمام الشريط الأحمر وفنجان الشاي يطارد شفتيه ولا يضل الطريق إليهما..
مخاطبا الزوجة: هل قرأت هذا الخبر ؟!
الزوجة: ومن لم يره !!
متأهبا للخروج (رائع جدا هذا الخبر.. يحتاج لتفكير)
لا تبالي الزوجة بجدية الحديث: أراك في المساء عزيزي
تتخفى نزعة خفيفة من الهواء البارد مع قدوم المساء، هدوء نسبي للضجيج إلا ضجيج الأجهزة من الأخبار التي لا تكل ولا تمل التكرار، ولا يسخر المذيعون من مواجهة الكاميرا بوجه حازم لإلقاء الخبر نفسه حتى أصبح محفوظا على الألسنة، يردده الأطفال حينما يقطع الخبر أفلامهم المفضلة.
على طاولة العشاء المستديرة، جلست منتظرة انتهاء تخمر أوراق الشاي في الماء المغلي.. الزوج يحضّر للجلوس موجها الكرسي نحو الخبر عسى من إضافة جديد للخبر المكرر.
الزوجة: كم قطعة من السكر؟
الزوج دون أن يلتفت إليها: اثنتين فقط وبعض الحليب.
الزوجة: أراك تتابع هذا الخبر، لا ترهق نفسك لم يتغير منذ الصباح...
الزوج: هذه فرصة جيدة للسفر لنبدأ بقليل من البساطة بعيدًا عن التعقيد والرقمية.
الزوجة: ما أدراك أنك ستعيش كثيرا بتلك الراحة الخيالية !!
الزوج متناولا للبسكويت غير ملتفت إلى زوجته: لم تقولين هذا؟! الكوكب خالٍ فارغ.. سوف نملؤه حياة وعملا ونملأ أنفسنا أملا ورضا وحياة أفضل بعيدًا عن الكوارث التي نعيشها يوميا ونسمعها ونراها.. أصبحنا نخشى من الصباح قبل المساء).
الزوجة : كم أخذنا من الوقت لنصل لتطورنا هذا ؟
الزوج: عجلي لى ما ترمين إليه.
الزوجة: فلنقل عشرات ونضاعفها حتى وصلنا إلى تطورنا الذي شمل كافة حياتنا، وبعد أن أصبحنا فرحين به بداية.. نقمنا عليه، ألا تظن أن الكوكب المستضيف سيلبسه عدوى التطور لكن في فترة أقل.
الزوج: لقد استماتوا بحثا وتحليلا حتى وجدوا ذلك الكوكب حتى يهنأ الإنسان به.
الزوجة: كيف يهنأ الإنسان به والعقل الذي دمر الأرض سيذهب هناك؟!
الزوج بنبرة حزم: لن يدمره.. لأنه لم يكفر بفكرة الكوكب البديل وأورثها لأجيال صدقت وآمنت وبحثت.
أصوات الجيران متداخلة من الخارج تبدي آراء متعارضة حول الخبر المسيطر!
الزوجة: حسنا.. صدقا هذا الإنسان يتذلل ويستميت بحثا وألما للوصول إلى ما يرجو، ألم تسخر لنا الأرض نطويها تحت أرجلنا ذهابا وإيابا فلم نكتف ودمرنا الأخضر واليابس؟! ألم نهنأ بالسماء والدفء والحياة، كم طغينا.. واليوم مؤتمرات لمناقشة المناخ والاحتباس الحراري، نحن البشر دائما ننظر للقمة التي في يد الآخر.. ولو أمسك بورقة شجر سنميل إليها ونحصل عليها.
الزوج: لم تظلمين البشر وتصنفينهم مجرمين؟
الزوجة: لا أصنف، بل التاريخ يحكي ولا يكذب وغدا تاريخ الكوكب المضيف سيحكي مأساته التي ستحاكي الأرض ويصبحا توأما في الشقاء، أشفق على هذا الكوكب المضيف أكثر من كوكبنا فسينتقل إليه التطور التكنولوجي الرقمي بالتوازي مع الفساد المتطور وهؤلاء جميعا دفعة واحدة وليس كمراحل كما اختبرناها.
الزوج: إذن.. نحن قوم نسبب الشقاء ولا نستحق العيش لا على الأرض ولا على كوكب آخر!!
مودعة هي الكرسي وذاهبة لغسل أدوات الشاي: إذا أردت الهناء فذاك حلم كبير سنورثه لأجيالنا ليحققوه.. لنبدأ بخطوتنا الصغيرة هنا ونترك بصمة.
الزوج وعلامة زهو تكسو وجهه: هناك شيء لم تنتبهي له، شيء يوثق رحلتنا على مر الزمن ويخلد أسماءنا، سنكون نحن القدماء في هذه الأرض الجديدة .. نحن الرجال الأوائل الذين سيذكرهم التاريخ بالشكر والعرفان.. مهما اقترفنا من أخطاء.
ذاهبة لإطفاء الجهاز والجلوس على الأريكة: حقا !!...لكن رغبة الأوائل لم تكن تخليد ذكراهم على مر الزمن الطويل إنما كانوا يرغبون في تأسيس حضارة تخلد اسم الحاكم في زمنه لسنين لاحقة، أما أنتم فبداخلكم نية بناء الخلود عنوة وليس اكتسابا وهذا يهدم الهدف قبل تحقيقه.
يفرغ الزوج من نظرات الضيق ويعيد فتح الجهاز.
الزوجة محدثة بذهن شارد: لم يخيل لك أنك ستبني أحلامك حقيقة بأعمدة صلبة على هذا الكوكب.. من يملكون هنا.. سيملكون هناك، ومن يأمر هنا سيأمر هناك، وما ستحققه هنا ستحققه هناك.. دائما للعملة وجه آخر مطابق وإن اختلف.
صائحا بحنق: دائما تدفعيني لـ...
قطع حديثهما خبر جديد عاجل على التلفاز يعلن تأجيل الرحلة حتى يقوم خبراء من نخبة المجتمع بزيارة الكوكب ثم استطلاع آرائهم .

 

تعليق عبر الفيس بوك