لمحات اصطفائية للإنسان "علمه البيان"


محمد عبد العظيم العجمي | مصر


هل البيان غريزة فطرية تولد مع الإنسان كما يولد معه السمع والبصر والفؤاد ، وكما تولد باقي الحواس ، أم هو خاصية مكتسبة مع الزمن والممارسة والمخالطة ؟.. الإجابة على هذا السؤال تتطلب العودة بالزمن إلى الإنسان الأول (آدم) لمعرفة ما إذا كان قد ألهم البيان كغريزة ، أم هو عُلّمه بالحروف والأصوات؟ فالمعلوم لدينا أن علم اللغة والمنطق ،  هو علم محاكاة متسوحى من البيئة والمجتمع المحيط ، وإن كان الإنسان قد أعطي آلة الكلام كأداة للتعبير والبيان، فإن هناك فارق بين الملكة والآلة التي تقوم بوظيفتها ، فكما أن هناك فرق بين الضوء والمصباح ، والنار والإحراق، والشجرة والثمرة، فإن هنالك فرق كذلك بين آلة الكلام (الحلق والفم واللسان والشفاه) وبين الكلام..
ولا نستطيع أن نطرق هذا الموضوع بمعزل عن التناول القرآني المفصل المبين ، وحيث النظريات العلمية يشطح بعضها شطحا إلى أفق ما هم ببالغيه ، ويضرب بعضها في العمق التاريخي حتى يكاد يتيه في غياهب عصر ما قبل التاريخ والتدوين فلا يهتدي إلى شيء، أو حقيقة علمية مقطوع بها ، ويتصور بعضها كداروين(افتراء) حالة التطور الإنساني من صنوف القردة ، ومن الخلية الأولى التي كانت سببا في جميع الأحياء حتى انتهى الإنسان إلى صورته التي عليها، كما تتعدد الفروض العلمية في ذلك نجد منها نظرية "التاتا" التي دافع عنها داروين : أن الإنسان كان يتواصل بلغة الإشارة بيديه ورجليه ، حتى بدأ يصدر أصواتا ويحرك شفتيه حتى وصل إلى مرحلة التعبير التي استعاض عنها بلغة الإشارة ؛ كذلك نجد نظرية "محاكاة أصوات الطبيعة " التي تفترض أن الإنسان قد بدأ يقلد أصوات الطبيعة (خرير الماء وأصوات العصافير والحيوانات) .. وهو افتراضات مثيرة للعقل والجدل ، فالذي ألهم الطبيعة الأصوات والأنغام قادر على أن يلهم الإنسان بدلا من أن يدعه هملا للطبيعة يستجديها ويستلهما وقد ركبت فيه وسائل الكلام وأصواته .
 وهو كذلك منتهى الازدراء والانحطاط بالقيمة الإنسانية المصطفاة،  وبالتكريم الذي أسبغ عليه بنص كلام الخالق الذي أوجده " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)" الإسراء، كما أن نظرية التطور التي تتناول العنصر الإنساني (خاصة ) تتعارض كليا وجزئيا مع النصوص القرآنية القاطعة الثبوت والدلالة التي تجزم أن الخلق والإيجاد كانا لحكمة معتبرة وهي "الاستخلاف في الأرض" ، وأن اقتضاء لهذه المهمة الشائكة مُيز الإنسان بهذا التكوين الذي لم يتخلف ولم يتغير عنه خَلقيا منذ خلق" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)" التين ، "  يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)" الانفطار ..
والتسليم لنظرية التطور الإنساني عبر العصور، ينسف كذلك هذا العلم الذي علمه آدم (المخلوق الأول) ، وما كرم به من الحواس المؤهلة للعلم (السمع والبصر والفؤاد والكلام) ، والتي استطاع من خلالها أن يحاجج الملائكة أن قد علمه الله من الأسماء مالا يعلمون ، وبه استحق سجود الملائكة له ، واستحق كذلك حسد إبليس وذريته وعداوته حتى قيام الساعة ؛ كما تبطل كذلك (نظرية التطور) فهم الحديث النبوي الذي يؤكد كلام آدم بعد الخلق مباشرة ، بعد أن نفخت فيه الروح كما يروى في سنن البيهقي والترمذي " أول ما نطق آدم بعدما نفخت الروح ، عطس فقال الحمد لله ، فقالت الملائكة :يرحمك الله " .
إن الله تعالى حين من على الإنسان في الخلق والإيجاد والنعم ، لم يذكر نعمة "البيان " متلازمة مع الخلق والحواس في آية من الآيات، إنما ذكره منفردا كما في آية سورة (الرحمن)، وحين تحدث عن الخلق والإيجاد قال "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)" الإنسان ، وقال "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)" النخل ؛ ولوتأملنا نعمة السمع والبصر نجدها تولد مع الإنسان ، وتفعل قبل خروجه إلى الوجود ــ كما ثبت علمياــ ثم تكتمل فاعليتها بعد الولادة ؛ لكن الغرض من الاستشهاد هنا:  أن السمع والبصر والفؤاد هي نعم لا تحتاج إلى اكتساب أو بيئة تفعلها ، إنما تعمل من تلقاء نفسها حسب ما فطرت عليه من إرادة الخلق ولا خلاف على ذلك ؛ أما الحديث عن "البيان" فجاء بالترتيب كما في الآيات " خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)" الرحمن ، والترتيب هنا لابد أن يكون له دلالة وإيجاء أن البيان عُلم بعد نعمة الخلق ؛ وهو ما يثير موضوع الحديث عنه ، من حيث هو مكتسب أم غريزي؟
إن الله تعالى أخبرنا أنه خاطب آدم بعد خلقه، ثم أسجد له الملائكة بعد أن أنبأهم آدم بالأسماء التي علمه الله إياها ، وقد قدّرالله على آدم قبل الأكل من الشجرة وقبل الخلق أنه سيكون خليفة في الأرض ، وجعل له من لطائف العلم بعد نفخة الروح الربانية ما يميزه عن الملائكة ويعلي قدره فوق قدرهم بالبيان والعلم الذي نطق به .. ثم كان هذا الخطاب التوسلي إلى الله بعد أن وقع آدم في الغواية والنسيان بما زين له الشيطان، ولم يكن أمامه من سبيل سوى التضرع إلى الله والتوبة والإنابة بما علمه من كلمات ليتوب إليه بها " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)". البقرة ، ويقال أن هذه الكلمات كانت قوله عز وجل " قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23]..
إذا .. فقد كان هذا الحديث الذي تضرع فيه إلى ربه فتاب الله عليه ، وقد كان بلغة بيانية ولم يكن له سابق علم بها بدليل قوله "فتلقى " ؛ ومن هنا نفهم أن آدم قد علم البيان من ربه عزوجل كما علم الأسماء التي لم يكن له علم بها كذلك ، ولم يكن ثمة مجتمع بشري يحاكيه حتى يستوحي منهم لغة التعبير والإعراب عما في نفسه؛ وأما الأسماء فقد اختلف فيها أهل التفسيرـ كما في الطبري ومفاتيح الغيب (الفخر الرازي) ، والبغوي ــ ، ولكن غلب بعضهم(كما قال بن عباس) على أنها (اللغات) التي في الأرض جميعا ، والتي تكلم بها بنوآدم من بعده ، حتى اندثر بعضها وبقي بعضها ..
وعموما .. فإن الأسماء هنا تقتضي وجود المسمى الذي سأل الله عنه الملائكة أي (شخصه أو صورته) ، والعلم بها لا يعني العلم بأسماءها فقط بل يمكن أن يتعدى إلى مدلولاتها ، وما تتعلق به من عمل ؛ ولابد أن يكون آدم عليه السلام قد نقل هذا العلم، أو البيان ــ على الأقل ــ  إلى أبناءه من بعده ليستلهموا به في الضرب في الأرض والتبلغ به إلى ما يصلحون به معيشتهم في الحياة ، كما يبينون به عما يريدون في التواصل والتفاهم بينهم ، كما نرى في قصة (ابني آدم ) التي ذكرت في صورة "المائدة " وما كان بينهم من جدل يدل على طلاقة التعبير" كل عما في نفسه"، وما يدين به لله الذي خلقه " قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)" المائدة.
لكن هذا لا ينفي أنه مع تقدم الزمن واستحداث الكثير من الأمور والأشياء الحياتية اقتضى ذلك تجدد اللغة ، وتغيرها حسب ما تعارف عليه جماعات البشر في اجتماعهم ، وما اصطلحوا على إطلاقه من الأسماء والأوصاف والتعابير التي تقيم لغة التفاهم بينهم في اجتماعهم ، ومع تطور الجنس البشري (علميا وعقليا) تطورت اللغة واستحدث في مفرداتها مالم يكن موجودا من قبل ، وتشعبت كذلك اللغات وتعددت وتطورت المفردات الواحدة إلى الجمل والعبارات والاصطلاحات حتى وصلت إلى الحد الذي هي عليه الآن ، مما نسميه البيان أو الفصاحة والبلاغة .
 ولكن .. هل لو ترك الإنسان في بيئة تخلو من البشر، هل يستطيع أن يتكلم أو يبتكر اللغة التي يعبر بها ،  كما يرى ويسمع ، أم لا بد له من جمع يخالطه يكتسب منهم صفة الكلام ؛ وكيف نربط الفهم بين ما إذا كانت صفة البيان مكتسبة ، وبين قول القرآن "الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)". الرحمن، فالمفهوم من معنى الآية أن الإنسان عُلم البيان من قبل الرحمن ، فهل يعني ذلك أنه مكتسب من العلم؟
وهذا ما ندارسه في الموضوع القادم .. إن شاء الله.

 

تعليق عبر الفيس بوك