تطوير القيادات

حاتم الطائي

تتوالى البشائر النوفمبرية مع تواصل الاحتفالات بالعيد الوطني الثامن والأربعين المجيد، فبمُباركةٍ ساميةٍ من لدن حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- أُطلق "البرنامج الوطني لتطوير القيادات التنفيذية للقطاعين الحكومي والخاص معًا"، في خطوة من شأنها أن تُعزز علاقة الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص، وتفتح آفاقاً أرحب لمثل هذا النوع من التَّعاون، وهو تعاون مطلوب ويُحقق الكثير من الأهداف المُبتغاة، ليس فقط على مستوى الشراكة ولكن أيضًا على مستويات تبادل الخبرات واكتساب مهارات جديدة وصقل القائم منها، علاوة على تحفيز القيادات في هذين القطاعين لرفد مسيرة التنمية بالبلاد من خلال العمل الدؤوب والمُتواصل كلٌ في مجال عمله.

ولنا مع هذا البرنامج الطموح وقفات، نبدأها بالتوجيه السامي من جلالة السُّلطان- أبقاه الله- بإطلاق برنامج وطني يجمع تحت مظلته القيادات التنفيذية في القطاعين الحكومي والخاص، ويستهدف في المقام الأول أن يمنح هذه القيادات الفرصة لمواكبة متغيرات العصر والتطورات التي يشهدها العمل الحكومي وأيضًا قطاع الأعمال حول العالم، لاسيما في إطار خطط الدولة لدعم اقتصاد المعرفة والبناء على ما تحقق من مكتسبات وما تمَّ إحرازه من نجاحات مُتقدمة.

ويؤكد البرنامج الدور الرائد لديوان البلاط السلطاني في تطوير الكفاءات الوطنية ونجاح خططه في هذا الشأن، ومنها برامج سابقة أشرف عليها الديوان وحققت الأهداف المتوخاة، فهناك البرنامج الوطني للرؤساء التنفيذيين في القطاع الخاص، والبرنامج الوطني للقيادة والتنافسية والذي استهدف القطاع الحكومي وجسد الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص، وأيضًا البرنامج الوطني لتنمية مهارات الشباب، وغيرها من البرامج الوطنية المُتخصصة. ولديوان البلاط السلطاني مسيرة ممتدة من العمل التنموي وقائمة طويلة بمُختلف البرامج التطويرية والتنموية، والتي تمثل مرآة لجهود هذه المؤسسة في رفد مسيرة التنمية وتعزيز جهود النَّهضة المُباركة.

الشراكة التي نتحدث عنها دائمًا، هي التي تُثمر هذه البرامج، شراكة تدعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتُعزز فرص نمو الأعمال وجذب الاستثمارات وبحث الآليات الكفيلة بتذليل المعوقات وتنمية العنصر البشري وبناء القدرات الوطنية، وفق أساليب تخطيط وتنفيذ تواكب التطورات العلمية الحديثة، الأمر الذي سيضمن التأسيس لنقلة جديدة لاقتصادنا الوطني، وذلك في إطار العلاقة التكاملية بين التحول نحو نموذج اقتصادي معرفي، وقدرة المؤسسات على التطور استناداً إلى وسائل التقنية الحديثة والتدفق المعلوماتي، وبالتالي بناء قيادات تنفيذية تستطيع إدارة عملية التحول.

وسيعمل البرنامج على تعزيز خُطط تطوير الأداء من خلال ما سيُقدمه من مهارات وخبرات للمشاركين، ورفد الجهاز الإداري للدولة بقيادات مؤهلة على أعلى مستوى، فالبرنامج يُمثل امتدادا للبرامج الوطنية السابقة التي أطلقها ديوان البلاط السُّلطاني، وهنا عامل آخر من عوامل التميز والتفرد لهذا البرنامج. أضف إلى ذلك الدور المُميز للبرنامج في دعم سياسات التعمين؛ إذ سيُسهم تطوير القيادات- لاسيما في القطاع الخاص- في تقليل الاعتماد على الخبرات الأجنبية داخل مؤسسات القطاع الخاص، ويدعم تصعيد الطاقات الشابة إلى مواقع قيادية ذات تأثير حقيقي في مسيرة عمل هذه المؤسسات.

لقد ظلت سياسات التعمين حبيسة قرارات مُتعلقة بنسب في هذا القطاع أو ذاك، وهو ما تسبب في تحقيق نسب تعمين غير حقيقية أحيانًا، ووجدنا مؤسسات لديها نسب تعمين على الورق، لكن على أرض الواقع لم يتحقق إلا النَّذر اليسير، فالتعمين في القطاع الخاص على سبيل المثال يتم من خلال حظر توظيف غير العمانيين في وظائف بعينها، لكن في المُقابل لم يتم طرح البدائل والخيارات التي تُساعد الموظف العماني على اكتساب الخبرات والقيام بما يُناط به من مسؤوليات ومهام في هذه الوظيفة المُعمنة. حتى عندما شهدت تحولاً في السنوات الأخيرة بخطط التعمين، لم تحقق المأمول منها، لكن ثمة جهود محل تقدير ومنها برامج التدريب على رأس العمل، وبرامج التأهيل والتطوير، وكذلك برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات التي تستهدف تقديم منح تدريبية للشباب الباحث عن عمل أو حديثي التعيين، وكلها تصب في تحقيق نسب تعمين حقيقية تضمن توطين الوظائف بمعدلات كبيرة وأيضًا توفير العديد من فرص العمل. وهنا يجب الإشارة إلى أنَّ سياسات التعمين يجب أن توازيها بنفس درجة الاهتمام والعناية، خطط لتغيير ثقافة العمل لدى شبابنا، وغرس ثقافة التفاني ووضع أهداف مرحلية، دون أن يكون حلم الشاب محصوراً فقط في الحصول على وظيفة في الحكومة أو في إحدى شركات النفط، فتلك رؤية محدودة.

البرنامج الجديد يضع في مقدمة أولوياته تدريب المُشاركين على أحدث أساليب وآليات العمل، وهو ما سيُعزز جهود تحقيق تنافسية مؤسسات الدولة، ويدعم خطط التحول نحو اقتصاد المعرفة كما ذكرنا، لأنَّ اقتصاد المعرفة يقوم في الأساس على توظيف التقنيات الحديثة مثل الإنترنت والذكاء الاصطناعي، وهما من دوافع تطور الثورة الصناعية الرابعة، التي تسخر الآلة لخدمة الإنسان، وخدمة التنمية لتحقيق الاستدامة. والسلطنة قطعت شوطًا كبيرًا فيما يتعلق بجهود تعزيز التوجهات التنموية القائمة على اقتصاد المعرفة، مثل خطط التحول الرقمي، وتطوير المناهج الدراسية لتتماشى مع متطلبات العصر التقني واحتياجات سوق العمل.

ولا شك أنَّ البرنامج الوطني لتطوير القيادات التنفيذية يعكس الرؤية السامية لجلالة السلطان المُعظم- حفظه الله ورعاه- والتي تستهدف تنمية الإنسان في المقام الأول، وتوفير كل ما من شأنه أن يدعم هذه التنمية، سواء عبر التدريب والتأهيل أو من خلال تهيئة بيئة العمل لهذا التطوير. فمسيرة النهضة المباركة ومنذ يومها الأول تصب جل اهتمامها على بناء الإنسان، فما بناء المدارس والمستشفيات في مُختلف أنحاء السلطنة سوى ترجمة لجهود التنمية التي لم تتوقف على مدار 48 عامًا، وقد انعكس ذلك على تصنيف السلطنة في المؤشرات العالمية، التي تؤكد ما تحظى به بلادنا من تنمية مُستدامة تشمل شتى نواحي الحياة، ولا أدل على ذلك من تقدم السلطنة في التصنيف الخاص بتقرير التنمية البشرية لعام 2018؛ حيث صُنفت السلطنة ضمن الدول ذات التنمية البشرية المُرتفعة جدًا، وهو تصنيف يُبرهن مدى التقدم الكبير الذي أحرزته بلادنا في مجالات التعليم والصحة ودخل الأفراد، وهي كلها مؤشرات حازت السلطنة فيها على مراتب مُتقدمة، ومثل هذه الخطوات تؤكد نجاح الخطط التي تنفذها الحكومة الرشيدة بتوجيهات من جلالة السُّلطان المعظم.

وبشكل عام فإنَّ خطط التنمية التي تقوم بها مؤسسات الدولة، تستهدف دائمًا بُعدين رئيسيين؛ الأول تطوير الوضع القائم وإنهاء أي تأخر في مسيرة التحديث والتطوير، أما البعد الثاني فيتمثل في استشراف المُستقبل، من خلال استقراء المتغيرات المحتملة خلال السنوات المُقبلة، ووضع كافة الاستعدادات لها في الحاضر، وهو ما يعكس بكل قوة الرؤية الاستشرافية للحكومة الرشيدة تحت القيادة الحكيمة لجلالة السلطان، وهي رؤية ترسخت في النهج العماني المتفرد للنهضة؛ حيث تتابعت الاستراتيجيات والخُطط الخمسية وفق مستهدفات تنمية، منها ما تحقق بالفعل بمعدلات أكبر من المُخطط لها، ومنها ما لا يزال قيد التنفيذ نتيجة لمُتغيرات وتحديات اقتصادية نجحت بلادنا في تجاوزها. وفي الوقت الذي تقوم فيه الدول حول العالم بوضع سياسات مستقبلية للتعاطي مع مختلف التوقعات، نجد أنَّ بلادنا تواكب هذه التوجهات مستعينة في ذلك بالكوادر الوطنية والخبرات التي تعمل على صياغة رؤى استشرافية طموحة تضع الحلول والإجراءات وفق المتاح من الإمكانيات.

وأخيرًا.. إنَّ البرنامج الوطني لتطوير القيادات التنفيذية في القطاعين الحكومي والخاص معًا، سيحقق مزيدًا من التطور لمسيرة التنمية في بلادنا، ويدعم خطط الارتقاء بالقيادات الوطنية على أسس حديثة تستند إلى مُعطيات الثورة الرقمية والتحول نحو نموذج اقتصادي أكثر قدرة على الاستدامة واستيعاب الطاقات الوطنية والاستفادة منها.