التخلُّص من اليأس السياسي العربي

عبيدلي العبيدلي

تمامًا كما يقود اليأس الفيزيائي صاحبه إلى التقوقع الذي ينتهي -في حالات كثيرة- إلى الانتحار، كذلك يفعل اليأس السياسي، لكنه بدلًا من أن يكون محصورا في فرد بعينه، نجده يجتاح المجتمع برمته، ويتمظهر في أعراض كثيرة تبدأ بالسياسي، ولا تنتهي بالاقتصادي، بعد أن تعرِّج على الاجتماعي.

وكما يقود اليأس الفردي صاحبه نحو خيارات قد تأخُذه إلى الانتحار ووضع حد لحياته، التي باتت من وجهة نظره، لم تعد تستحق أن تستمر، كذلك يقود اليأس السياسي المجتمع الذي يتفشى فيه  إلى الانهيار.

وكما تُعرِّف المصادر الطبية اليأسَ الفرديَّ بأنه "الحالة الشخصيّة التي تُسيطر على الفرد، فتجعله يرى أنه مُقيّد، وأنّ الخيارات المُتاحة محدودة أو غير مشتملة على بدائل، وبالتّالي فإنّ هذه الحالة قد تمنع الشّخص من شحن الطاقة الذاتية، ويُشار إلى أن اليأس قد لا يكون مرتبطاً بمشكلات صحية خطيرة، ومن الممكن علاجه عند بعض الأشخاص من خلال توفير بيئة مُحيطة مفعمة بالإيجابية، والتركيز على زيادة الاستقلالية والثقة بالنفس"، كذلك الأمر بالنسبة للشعوب يراه البعض أنه تلك المرحلة التي تتولد لدى شعب معين، ينتشر فيها "عدم الإبمان بكلمة العدل والقانون.. يولد المأزق السياسي ويجعل الأفكار السياسية تدور حول حلقة مغلقة دون الوصول إلى حل لكل مشكلة سياسية تعرض على طاولة المناقشات السياسية".

يشترك هذان النوعان من اليأس في ظاهرة واحدة وهي فقدان الأمل في الحل والاستسلام النسبي، الذي قد يدهور صاحبه أو المجتمع الذي ينتشر فيه، فيصبح حالة مطلقة تقود إلى الانتحار.

وتركيزا على اليأس السياسي، نستطيع القول إن المجتمعات العربية تمرُّ اليوم بدرجاتٍ مُتباينة من حالات اليأس السياسي تكاد تكون قاتلة في بعض أعراضها. وليست هذه الحالة التي نتحدَّث عنها عارضة؛ إذ تقف وراءها مجموعة من الأسباب التاريخية والآنية يمكن رصد الأكثر تأثيرا بينها في النقاط التالية:

1- مجموعة الهزائم المتلاحقة التي تلقتها الشعوب العربية على أيدي القوى المستعمرة (بكسر الميم)، التي لم تقف حدود أطماعها عند السيطرة على مقدرات البلاد، ونهب خيراتها فحسب، بل أمعنت في  تدمير مقومات القيم الحضارية، وتزوير مضامين التكوين الثقافي للمجتمعات العربية، مما أسهم في تشويه الفكر الجمعي للإنسان العربي، ونزعه قسرا من حاضناته الطبيعية، وغرس مكانها عناصر أخرى غربت ذلك المجتمع، بعد أن اجتثته من جذوره. أدى ذلك إلى مجموعة من التداعيات، كان الأبرز بينها حالة اليأس التي تفشت في صفوف المواطنين العرب، وولدت حالة تقترب من اللامبالة المجتمعية/الجمعية التي كفرت بكل شيء، دون أن تجد مِن بينها تلك القيادات الكفوءة القادرة على انتشال المجتمع العربي من هذه الحالة التي سرت في كيانه، وسيطرت على تفكيره، وتحكمت، بفضل ذلك، في سلوكه السياسي.

2- النهج الماضوي الذي سيطر على التفكير العربي، وأرغمه على العودة إلى الماضي، وحرمه بالتالي من النظر نحو المستقبل، فسيطرت على سلوك المجتمعات العربية حالة جمعية تكتفي بالتبجح بما اعتبرته إنجازات الماضي، وتصر، بفضل حالة اليأس والخوف، على تحاشي النظر بعيدا نحو آفاق المستقبل. حصرت هذه الحالة الماضوية التفكير الجمعي العربي في فقاعة ضيقة محدودة الحجم، تولد بالضرورة حالة من اليأس في نفسية من يجد نفسه محاصرا بجدرانها. وكما يهرب الفرد اليائس من حاضره، ويستسلم للسلبيات التي تحاصره، كذلك المجتمع اليائس يخضع نفسه طوعا للتبجح بمآثر الماضي، ويبني من حول نفسه جدارا عازلا عاليا وسميكا يحجب عنه رؤية المستقبل، ويغرقه في أحلام  الماضي، التي تبدو له في أزهى ألوانها المغرية، لكنها المدمرة بما تزرعه من سلوكيات اليأس في صفوف ليس المجتمع برمته فحسب، بل تغرسها عميقا في أذهان قياداته السياسية.

3- إفرازات الطفرة الاجتماعية التي ولَّدتها الوثبة النفطية الناجمة عن الارتفاع المفاجئ السريع في أسعار النفط التي بدأت في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، والتي أشاعت خمولا اجتماعيا مصدره بيات شتوي ذهني، توهم أن السيولة النقدية تولد المعجزات، لكنه اصطدم لاحقا بأنَّها تخلق مجتمعا مزيفا يقف عاجزا متخلفا، غير قادر على اللحاق بالأمم المتقدمة. وجاءت ثورة المعلومات والاتصالات كي تبخِّر نسبة عالية من قيمة الرأسمال النقدي، كي تضع مكانها قيمة للرأسمال البشري. زرع ذلك حالة من الإحباط التي تنامت رويدا رويدا كي تتحول إلى موجة يأس عارمة، قادت بدورها إلى فقدان المجتمعات العربية ثقتها في قدراتها الذاتية، وزرعت شعورا بالدونية إزاء شعوب أخرى كانت المجتمعات العربية تتقدمها على صُعُد كثيرة، من بينها التطور السياسي.

لم يكُن القصد من وراء رصد تلك الأسباب الخضوع لها، او الاستسلام لإفرازاتها، بقدر ما كان الهدف تشخيص عناصر الداء قبل طرق أبواب مصادر الدواء، وهي ليست مستحيلة بل ربما تكون في متناول اليد، لكنها غائبة عنا بفضل إفرازات حالة اليأس التي لا نزال نحن أسرى لقيودها.

وأول خطوة يمكن أن توصلنا إلى الطريق الصحيحة التي يمكن أن تنتشلنا من حالة اليأس التي باتت شبه مزمنة هي الخروج من خيوط شبكة الماضي والنظر بثقة وأمل نحو المستقبل. التحول نحو هذه النظرة لا يأتي عبر قرار فوقي، تصدره هذه الهيئة أو تلك الوزارة، بل هي عملية تحول تدريجي تضع أطره خطط علمية دقيقة، وترسم معالمه برامج تنموية واضحة المعالم، ترتبط بزمن معين وأهداف محددة، تخاطب في البداية فئة معينة تمتلك مقومات الاستجابة، وبين يديها أسلحة التنفيذ.

يَلِي ذلك، ولا يوازيه، قراءة صحيحة للتاريخ العربي، بعيدة عن الانفعال العاطفي، ومتخلصة من نزعات التعالي والتباهي المسبقة التي تعمي عيون الباحث عن الحقيقة، وتغيِّب وعي من يسعى للتغير المطلوب الذي ينزع اليأس من قلوبنا. يترافق ذلك مع التمسُّك الشديد بالموضوعية البحثية. ليس المطلوب هنا التحول إلى ورقة بيضاء يكتُب عليها من يشاء التاريخ العربي، بل التمسك بقيم البحث العلمي ومبادئ الموضوعية التي يتمسك بها، من يريد أن يعيد كتابة التاريخ العربي كي ينتزع أورام اليأس العربي من المجتمع، ويغرس مكانها بذرة الأمل المطلوبة القادرة على بدء عملية الانتقال من حالة اليأس إلى مرحلة التحرر من قيوده.