التقارب والاختلاف بين الشريعة والحقيقة (3)


محمد عبد العظيم العجمي | مصر
" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " "رواه البخاري".
ومن خلال الفهم لهذا الحديث يؤكد هذه العلاقة المعقودة بين الشريعة وحقيقتها ، وأنها هي السبيل الموصلة إلى الحقيقة ولا سبيل عداها، إذ أن الحقيقة تتكشف للعبد من خلال ملازمة الشريعة (خاصة الفرائض) والأمر والنهي، فإذا انفعل العبد مع الفرائض ولازمها كان أهلا للقرب" كلا لا تطعه واسجد واقترب"، فإن تاقت نفسه إلى التزيد من (النوافل) والترقي حين يحظى بحظوة القرب، فإذا حققها ولازمها وداوم عليها كان أهلا (للحب)، فإذا ألهم منزلة الحب صار عبدا ربانيا منفوحا بالقرب والحب، طاهر السمع والبصر والفؤاد واليد والرجل، مستجاب الدعوة مؤيد الخطوة معاذا في حله وترحاله ، في سفره وقيامه.
فكما يقيض الله للعبد شيطانا قرينا لمن يعش عن ذكره ، كذلك يؤيد ملائكة لمن يلازم ذكره يعينونه على الطاعة يحفظون سمعه وبصره ويده ورجله"لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ"(الرعد) ، وقال بن قيم الجوزية " لايزال المرء يعاني الطاعة حتى يألفها ويحبها ، فيقيض الله له ملائكة تؤزه إليها أزا ، توقظه من نومه إليها، فعليك بالطاعة .."
وفي معرض حديثه عن الفناء والبقاء " من فني فقد تأهل للبقاء بالحق، وهذا البقاء الذي هو بعد الفناء ، فإنه إذا تحقق بالفناء رفع له علم الحقيقة ، فشمر إليه سالكا في طريق البقاء، وهي القيام بالأوراد، وحفظ الواردات، فحينئذ يرجى له الوصول..  " (مدارج السالكين).
وقال ابن الجوزي "أن الشريعة ما وضعه الحق لصالح الخلق ، فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشيطان"، وقال سهل التستري" احفظوا السواد على البياض، أي (العلم)، فما أحد ترك الظاهر (يقصد الشريعة ) إلا تزندق.
إذاً.. فطريق الحقيقة موسوم برسوم الشريعة، وما الحقيقة إلا لزوم أمر الشريعة فيرقى العبد في مراقي القرب، حتى يصل إلى نور من الكشف يقذفه الله في قلبه فيشاهد ببصيرته ما لم يطلع عليه إلا من خصه الله بهذه الخصوصية، وهوتأويل ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي حارثة " عرف فالزم ، عبد نور الله الإيمان في قلبه " ، وذلك حين أطلعه الصحابي على حقيقة ما آل إليه حاله من الكشف " وكأني أرى عرش ربي بارزا، وكأني .. وكأني.. الحديث "، كما جاء في مدارج السالكين " وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وأحست روحه بالقرب الخاص الذي ليس هو كقرب من المحسوس حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه ، فإنه حجابه هو نفسه".
وأما الصنف الثالث : وهم المتأولون المبطلون الذين يحرفون أمر الدين عن مواضعه ، فهم الذين يدعون فصل الحقيقة عن الشريعة ، وأن كلا منهما قد خص الله به فريقا من الناس ، فجعل الشريعة لعموم الخلق وجعل الحقيقة لخواصهم، وأنه (على حد دعواهم) أن العبد إذا بلغ مقام الحقيقة فإن الشريعة له أن يفعلها تقربا وليس (التزاما)، أو أنه مخير في أن يفعل أولا يفعل طالما وصل إلى هذا المقام من الكشف ، واستدلوا على ذلك بما جاء في قصة موسى مع الخضر، أن الخضر تعامل بحد الحقيقة حين كشف له (القضاء والقدر) فخرق السفينة وقتل الغلام وبنى الجدار، أما موسى عليه السلام فقد وقف عند حد الشريعة إذ لم يطلع على روح الحقيقة فاعترض.
كما ادعوا (افتراء على الله ) أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، لا يطلع عليه ويعلمه إلا من رزق هذا الكشف ، وفتحوا بذلك بابا لا يسد لتأويل آيات القرآن وتحريفها من مواضعها ، إلا أن الله قيض لهم علماء التفسير الذين قعدوا قواعد لهذا العلم لا يجوز الخروج عنها ، ولا يعتد بمن شذ عن هذا الفهم المطابق لهاِ؛ وهي العلم بلغة العرب وقول النبي صلى الله عليه وسلم وفهم الصحابة والسلف ، والناسخ والمنسوخ ، وأسباب النزول، والمكي والمدني .. الخ .. وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ , يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ, وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ , وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ»سنن البيهقي.
وهؤلاء هم الباطنية الذين خرجوا عن صحيح الفهم، وأصول العلم وإجماع العلماء، وتبعهم من خلفهم غلاة الصوفية، والقدرية والجبرية والجهمية وغيرهم الذين تقولوا على الله مالم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم ، ويقولون على الله مالا يعلمون ، كما يقول (النفري) عندما يحكى على لسان الله: " وقال لي: تعرّفي الذي أبديته، لا يحمل تعرُّفي الذي لم أبده". ومعنى هذا: أن العارف لا ضير عليه، إن اختلف إلهامه مع ظاهر الشريعة، فهذا الاختلاف ظاهري فحسب. ذلك أن الدين يخاطب عامة الناس من المحجوبين ... أما المعرفة؛ فإنها للمختارين، الذين غسلت أرواحهم وأجسادهم في النور الخالد . (د. مصطفى فهمى : الشريعة والحقيقة).
كما يدعون الفناء في (الربوبية ) ، وأن العبد إذا وصل إلى فناء الربوبية ، فإنه لا يستحسن الحسنة ولا يستقبح السيئة، وأنه قد تجاوز حد الأمر والنهي الذي جاء به الشرع ، كما يدعي بعضهم حال الفناء في الربوبية أن يستحسن بعضا ويستقبح آخر لكن ما أشرب من هواه وما قذف به في روعه الشيطان ؛ لكن من ادعى الحقيقة والفناء لا يمكنه أن يخرج عن حد الأمر والنهي الذي جاءت به الشريعة ، فيحب لله ويبغض لله ، ويعطي لله ويمنع لله ، ويسأل الله ويتوكل عليه ويضرع إليه في السراء والضراء .. وهذا هو حقيقة فناء الربوبية ، وما جاء به المرسلين "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)آل عمران.
"وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) النساء.
تعرض قوم للغرام وأعرضوا
 وخاصوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا
وعن مذهبي لما استحبوا العمى على
 الهدى حسدا من عند أنفسهم ضلوا

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك