لماذا لا أكون شاعرا !


الشاعر محمد بن  ضحي: (( توجد عائلة للشعر  مكونة من أب وأم وابن بالغ وابنة صغيرة وطفل رضيع))
تحقيق : سعيد المعشني- مسلم العمري
 فلانٌ  شاعرٌ  عظيم   ، قصة نجهل حقيقتها ،  هل فكرت في يوم من الأيام أن تكتب شعرًا  أو حاولت ولم تنجح ّ، و إذا فشلت وقلت :  بينك وبين نفسك :ما أجزل شعر غيري!  وما أعذبه ! يا تُرى كيف يصنعون ذلك ؟ّ!  هل هي موهبة لديهم أم اكتساب أم تجربة أم محاولات تنجح وتفشل،من أين يأتي الشعر ،هل الشاعر يستطيع اكتساب الشعر ،ما السبب في عجزنا عن قول الشعر علمًا بأننا نجيد الكتابة و الأدب بأسلوب أجمل وأبلغ من الشعر! كيف ؟؟

للشعر مراحل
حدثنا  الدكتور محمد جمال صقر  شاعرٌ  و أكاديمي ، وأستاذ النحو والصرف والعروض بقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان قابوس.  
 قائلا:  إن الشعر -وغيره من الفنون مثله- يستند إلى الاستعداد الذي يسمى الموهبة. وينبغي لهذا الاستعداد أن يشفع بالتعلم، فيتعلم الفن الذي رزق فيه الاستعداد والإبداع به، وسواء من دراسته في الجامعات أو الحضور للعلماء أو بالبحث عنه، ليتحول بذلك من الاستعداد إلى القدرة. وبعد تلك القدرة ينبغي ألا يقف الواحد، بل عليه أن يمارس هذا الفن، ويستمر في ممارسته، ولا يكف عنه. وكلما مارس أكثر أصبحت مهاراته متمكنة ومتميزة.  وفي المسيرة  يأتي  التحصيل الفني في ثلاث مراحل : أولًا : الاستعداد  الذي يتحقق  بالموهبة التي قد تتعلق بعامل الوراثة في الشعر مما يسهل ذلك طريقا إلى الإبداع،  ثانيا : التعلم ويجسد القدرة  الفائقة في الكتابة ، ثالثا : الممارسة  أمُّ المهارة .
شاعرٌ وليس بشاعر
 لكل مرحله مستويات. ولكن ماذا عن من لم يرزق الاستعداد أو الوراثة؟ إنه محتاج إلى مضاعفة الجهد، وهذا أمر عام شامل، لا يخرج لأنه فن لا علم؛ إذ كيف لشخص أن يكون طبيبا مثلًا ولم يحظ بأن يكون أهله أطباء، أو أن يشتغل بعمل ليس من مشاغل أهله أصلا ،و ما عليه  إلا أن يضاعف جهده، ليعوض افتقاد الموهبة، وينال ما يحبه ويرجوه!
 شاعر  ولغتي  عالمية.
أما إذا وجهنا نظرنا إلى معرفة خفايا حدوث الفن، أي كيفية خطور المعنى للشاعر، فإننا نجد الشاعر -ومثله الموسيقار- يمر بالمواقف مرورا غير عابر، لا كمرور الشخص العادي؛ إذ تستوقفه المشاهد في هذه الحياة، ويستلهم منها مفردات فنه المختزنة في مشاهد الحياة المختلفة.  
لقد قال فيتجننشتاين (فيلسوف اللغة الكبير الأخير) : "لغتي هي عالمي لا أرى إلا ما تريني إياه لغتي"؛ فدّل على أن كلا منا ينجذب في رحلة حياته على وفق ما تؤهله له ثقافته التي تستقر اللغة في قلبها. هذه حال كل من كان فناناً  أو عالماً ، و طالب العلم هو العالم أو طالب الفن هو الفنان.
بين التجربة والاكتساب
وفي تجربة الشاعر يوسف الكمالي  في  برنامج  (فصاحة) المقام في دولة قطر  أوضح  أن العقبات أكثر خطورة من عقبة واحدة التي تتمثل في نفسية الشاعر   التي تتطلع إلى انتزاع  الأضواء واختراق القلوب ، ودلل على ذلك بالمقولة  التي قالها  النقاد عن  أبى  الطيب المتنبي فقال : إن  الشاعر  اليوم يريد "أن يملأ الدنيا ويشغل الناس"  كما أن ما فعلوه الأوائل لم يعد ممكنا كما كان في  السابق،  وهذا  ما يحبط الشاعر  ويجعله غير متزن ورافض للنقد والتوجيه والاكتساب.
هكذا يصنع الشاعر
أكدّ الكمالي  على أن الشاعر   لا  ينبغي أن يعرف ماذا يقول  للجمهور !  ففي النهاية سيقول ما يريد سماعه للآخرين ، فهو  بالفطرة  يقول ما يريد  دون تكلف، وأما  جانب الاكتساب  يتجلى في مشاركة الشعراء  في جميع الفعاليات سواء كانت كبيرة أو صغيرة  مما يسهم ذلك في تحفيز  النشئ   لتطوير  مهاراتهم وخبراتهم مهما بلغ حجمها  فهي لا  تعود  إلا على انتقائية الشاعر  ورغباته الذاتية في الاختيار .
لذا لم أكُ شاعرا
الشاعر  محمد بن ضحي  قال : دعنى افرق بين الموهبة والهواية  التي  يظن العديد منّا أنها تشبه الهواية إلى حد ما ،ولكن في الحقيقة يوجد اختلاف جذري بين المصطلحين، فالموهبة هي  ما وُلد معك منذ طفولتك بهبة من الله أو من خلال  نمط معيشة مكنتها لك الظروف  -وبالأخص – الظروف الاجتماعية. و أما الهواية فهي الوقوع في هوى حرفة معينة فتدفعك للاستمرار  في تعلمها. فلو أخذنا مثال : عن رجل وهبه الله الطول في الجسم و الأطراف لكنه لم يستغل ذلك جيدًا فلا يمكن له أن يصبح لاعب  كرة سلة محترف، كذلك لو ضربنا مثال آخر: لشخص قصير القامة يجتهد ليصبح لاعب كرة سلة فيتعلم المهارات اللازمة ،لكن طول قامته يشكل عائقا أمامه فلن يحترف لشدة المنافسة بينه وبين اللاعبين.
كذلك العازف الموهوب  ذو  الأصابع الكبيرة الطويلة لن يستطيع الاحتراف في العزف على آلة الماندولين بسبب حجم أصابعه ولكنه بالاجتهاد يستطيع الاحتراف في عزف آلة الجيتار لأن أماكن التحكم بالأوتار أوسع بكثير مقارنة مع آلة الماندولين. والأمثلة في هذا الجانب كثيرة جدا لذلك أرى بأن كل مهارة في العالم تستطيع اكتسابها وجعلها هواية إذا توافرت لك المقومات الجسدية والعقلية والنفسية والاجتماعية واجتهدت اجتهادا حقيقيا لاكتسابها.
الشعر  يُكتسب
ودللَّ ابن ضحي أن الشعر هواية من الهوايات الفنية التي تتطلب الخيال الواسع، ولا نستطيع القول بأنها موهبة، يستطيع الشخص اكتساب المهارات الكتابية بأنواعها من شعر ونثر إذا توافرت لديه ميزات معينة وهي: الإلمام بلغة من لغات البشر وفهم قواعدها وإتقان التحدث بها  وفي حديثك تنتج الأفكار الداخلية القابعة في القلب.
و بالتعلم الذاتي والحرص على الاطلاع لتنمية مخزون العقل بالقراءة والإنصات سواء كان عن طريق قراءة الكتب أو بملاحظة كل ما حولك أو بمشاهدة الأحداث والأفلام.  ومن خلال إتقان أساسيات الكتابة و الإيمان بالفكرة  مع ترابط الوحدة الموضوعية في الصياغة والتشبيهات الجمالية وغيرها من الأساسيات التي ينبغي  على القارئ المهتم  المحاولة في  البحث عن اكتساب المقدرة على التحليل والنقد في ظل ذكاء عاطفي وتحكم   في الذهن من خلال استحضار العقل.

   عائلة للشاعر فقط
 وبرهن  بن ضحي أن  الشعر  يقابله  النثر  الذي  لا  يتطلب إلى معرفة موسيقية  أو إلى استخدام القوافي وإتقان الأوزان.  فلو شبهنا منظومة كتابة الشعر العمودي مثلا( بعائلة تتكون من أبّ وأمّ وابن بالغ  وابنة صغيرة وطفل رضيع، سنجد أن صرامة الأب في التربية تشبه صرامة الالتزام بالوزن والقافية لتستقيم القصيدة على منهج معين، وأن حنان الأم يشبه العاطفة والألفة التي تبثها القصيدة في أذن المتلقي، وأن مشاكسات الأبن البالغ مع أخته الصغيرة  هي إثبات لوجوده  في البيت فهي مثل مشاكسات الصور الشعرية الأساسية التي تعطي للقصيدة ملحها الخاص، أما عن الطفل الرضيع فضحكاته  تبث الدهشة والابتسامة في روح العائلة إلا بيت القصيد وهو البيت الذي يحفظه المتلقي رغمًا عنه  من خلال  قراءة  القصيدة في الوهلة الأولى.
وإذ تحدثنا عن السليقة الشعرية فهي كحال جميع السلائق على وجه الأرض، فهي تشبه تماما سليقتك في قيادة السيارة، منذ أن بدأت قصتك بالنظر إلى المفتاح،  ثم مكان تشغيل المحرك، ثم  الوقوف في مواقف السيارات، فإذا نجوت من الاصطدام ببعض البراميل اعرف  أنّك كنت تركز  على كل شيء حولك كي لا تصطدم، تارة تراقب المرايا الجانبية وتارة أخرى تمسك بيديك ناقل الحركة للتأكد من وضعه في المكان الصحيح. أما الآن فإن سليقتك في القيادة تجعلك تدير المحرك وتذهب لقضاء حاجتك، ثم تعود إلى البيت وفي يدك أكياس، فلا تتذكرها  إلا عندما  تشغل المحرك  وتنطلق ،  كذلك  تتكون السليقة الشعرية و أساسها التعلم فالممارسة حتى يصبح الشعر سجية وأداة.
الموهبة هبة.
أوضحت الدكتورة  فاطمة الشيدية شاعرة و أستاذ اللغويات الأسلوبية المساعد بقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان قابوس أن الشعر  يأتي هبة من روح الرب لتصبح الرؤية متحدة مع الرؤيا، محلّقة في أفق آخر منظور وغير منظور، هو روح أخرى تسكن الروح وتأخذها بيدها عوالم بعيدة ولا مرئية، أو تصبغ نظرتها للأشياء وللكون بألوان أكثر نصاعة من جهة وأكثر خفوتا وظلا وعتمة من جهة أخرى، إنه إحساس مضاعف بالألم والوعي وإدراك الجمال. وبالتالي فهو موهبة، والموهبة هبة وهي البذرة الأولى التي تلقى في أرض الخلق والتخلق، وتشّكل بؤرة جاذبة للغة والجمال والشعور، بذرة صغيرة من لدن الرب يختص بها من يشاء وتجري في جينات المبدعين عبر الوراثة، وتتجلى عبر ذلك الارتباك اللذيذ مع كل نص يسمع ويقرأ فتذهب معه، ثم تتشكل رغبة عبر حكة في الدم والأصابع تدفع للكتابة بلا قدرة على رفضها أو مواربتها، فتأتي الكتابة مبكرة لينة طرية وتمضي في طريق التكون بماء المعرفة وشمس القراءة وجمالية الوعي وفتنة المجهول ولذة التمرد؛ لتمضي في طريق طويل من التشكّل عبر اكتساب اللغة والوعي.
بذرة الشعر
وأضافت أن الشعر  لا يكتسب بالمهارة والدربة وإنما ينمو، تماما كما قد يموت إذا لم يعتنَ به، فتلك البذرة الصغيرة التي ألقيت في أرض الروح تحتاج للعناية والسقيا بماء المعرفة والشعر والقراءة، تحتاج لأرض طيبة وعميقة لتمد جذورها عبرها، وتحتاج أن تلتصق بسيقان أكبر، وأن تفتح أذرعها لشمس الشعر الأقدم، تحتاج أن تحتك وتسافر وتستمع وتقرأ لتتكون وتنمو وتصبح سامقة يوما بعد يوم وعاما بعد عام، تنضج بالمعرفة والجمال والرؤية، وتتحد مع روح الأدب في الكون لتصبح جزءا منه، تسابق خطواتها كل خطوة في هذا المجال، ثم تخط لنفسها طريقا واضحا فتسير عليها، وتعمّق خطواتها في دربه، وتصنع أنموذجها الخاص ولغتها المائزة، ووعيها المتفرد وجمالها الفاتن لتصبح يوما جديرة بالشعر فتستحق أن تقرأ.


الشعر موهبة مغروسة.
قال الشاعر هشام الصقري :  الشاعر بحد ذاته تجربة متعلقة بالإنسان تعالج قضاياه  وتترجم مشاعره وهي المرآة التي تعكس المجتمع وما يحيط به، و الموهبة  والاكتساب تصعب الإجابة فيهما  ولكن الشعر هو الموهبة والاكتساب ،
موهبة مغروسة في الفرد تبدأ بالظهور منذ الوهلة الأولى التي يعي فيها الإنسان بما حوله ، ويبدأ الفهم والتحسس للأشياء ولكنها تحتاج إلى اكتشاف، فإذا اكتشفها الإنسان عليه أن يصقلها ليكتسب الأساسيات والأدوات التي تجعل  الموهبة متمكنة وقوية ورصينة.
الشعر ليس موهبة يمتلكها الإنسان وليس منحة لشخص دون سواه و لكنما في المقام الأول يحتاج إلى  صقل التجربة والكفاح من أجلها لتبلغ القمم و ترتقي إلى مراتب متقدمة.
الشعر  شعور.
أضاف الصقري قائلا:  تتم اكتساب  المهارة عادة بالمطالعة و القراءة ،وهي العنصر الرئيس الذي يشكل  أفق الشاعر  والذي  يفتح سماوته ويجعلها فسيحة ، رحبة ،ممتلئة بالجمال، ليقلب نظره في الأشياء فيشكلها  بوعي يعتمد على مقدار فهمه لحقيقة الأشياء، مثلما يضيف الاحتكاك بالشعراء والمثقفين إلى للشاعر  شمس  من المعارف ، فإن لم يحتك بهم سيضعف هذا من تجربته الشعرية ،-وبالأحرى-لن يطلع على ما يقدمه غيره من تجارب ثرية لها أثرها وقيمتها في المجتمع. و على الشاعر أن  يبني لنفسه أفقا  خاص به ، وأن يشكل لذاته كينونة متفردة، فالشعر  الذي  لا يأتي بعفوية من الإنسان  - ببساطة- من المستحيل أن يكون  شعرا ، فهو الرابط بين الإنسان وقلبه ، فالشعر  شعور و التصاق عظيم بروحي وقلبي نفسي ،هو شيء لا غنى عنه  كالهواء كالقلب ،كالأنفاس.

الشعر  ليس عبثًا  وإنما هو  أداة في يد الشاعر  ،و ليس كل من يشعر  بشاعر  ،  فهو موهبة واكتساب في وقت واحد، فلا يعد الاكتساب  أكثر  أهمية  من الموهبة ، ويكمل كلاهما  للآخر ، فمن الممكن أن نرى شاعرًا موهوبًا أو شاعرّا  يشتغل على نفسه ليضاهي الأول  في مجال الشعر  فيجيد ويبدع ، وأما   عن  الذي لم يجد  الشعر –المسكين-  عليه  يطلع على  القصائد موازيًا  بين الشعراء  ليثري معارفه وثقافته ، فلا ييأس  وهو   في خضم  مجالات واسعة ، فالشعر  ليس مُلكا للشاعر فقط بل هو مملكة لمن يريد دخولها.

الإنسان لا يولد شاعرا
الشاعر يوسف الكمالي  :  كن عفويا  لتقول ما تريد
الدكتور محمد جمال صقر :  الشعر ثلاث مراحل 
الشاعر محمد بن ضحي : للشعر أسرة
الشاعر هشام الصقري: الشعر حديث في الشعو

تعليق عبر الفيس بوك