ظلَّان غريبان


سالم الشبانة | مصر

صُبِّي لنا بعضَ القهوةِ؛
يطولُ الليلُ قليلا،
ونتخيّلُ شكلَ النهايةِ المُلِحّةِ
في العامِ الطويل
من خَاتِمَةِ القَرنِ.
سأرسمُ مِزهريةً صغيرةً
على قبرِ أمّي الذي لا أعرفُهُ،
لمّا احترفتِ الغيابَ؛
طَللْتِ أنتِ من فُرجةِ الصّباحِ؛
لترتِّبي اليومَ الطويلَ الفقيرَ
بألغازٍ وعواطفَ ملتهبةٍ
شيئًا ما.  
تثرثرين دومًا عن:
أشْغَالِ يومِكِ
وأمِّكِ المريضةِ بالماضي
واليَبابِ،
لا أحتاجُ إلا صمتَكِ في الليلِ
الذي يُشبِهُ ليلاً أعرجَا.
ما زالَ القلبُ مكتنزًا
بالقَصَصِ ووجوهِ الراحلين
في البياضِ،
لم يتركوا شيئًا يُعتدُّ به
غيرَ أرواحِهم على الورقِ.
 
لن تكون النهايةُ مفجعةً،
أظنُّ ذلك؛
نحنُ نملكُ قلبين مُتّزنين،
ونمضي واثقين
في سِياقِ العَصْرِ،
الماءِ الشّحيحِ على أصابعِنا
يوترُنا  إذ نَردُّ الليلَ
عن شُرفتِنا الخاويةِ.
فالأنوارُ الخافتةُ التي تعثرين
بها أرواحٍ لا مرئيةٌ،
أحْدِبِي عليها وأنتِ ترقُصِين
في الظّلامِ؛
لا تجرحُ قدمَكِ الصغيرةَ؛
فتَهمِي الذكرياتُ مَطرًا ناعمًا،
لا مكانَ له
في بُقعَةِ الظّلامِ هذه؛
ربَّما تكلفُنا الكثيرَ
من عاداتِنا السّيئةِ
التي نُحبُّها كأبناءٍ لُقطَاء.

للحبِّ فُصولٌ،
وللشهوةِ فصولٌ،
فأيُّها نَدخلُ أولا؟!  
سؤالٌ ماكرٌ، أليسَ كذلك؟
تدفعُنا الشّهوةُ للإمتلاءِ
بنوايا صادقةٍ وساطعةٍ
كشفرة،
أما الحبُّ؛ ما الحبُّ؟
عِراكُ دِيُوكٍ لا ينتهي،
ويبقى الحُطامُ
دليلَ كبرياءٍ زَائفٍ.  
رُبّما يَنزاحُ بِضَعةَ بُوصَاتٍ؛
ليزهوَ (الشّيطانُ الّذي يَكمُنُ
في التفاصِيلِ)،
ضاحكةً تدُسْينَ وجهَكِ
في صَدري
وتهمسين:
" ما اختلى رجلٌ وامرأةٌ...".
فصولُ الحبِّ صيفٌ ملتهبٌ،
وللشهوةِ طعمُ أمَاسِي الشتاءِ،
وأنا لا أملكُ شتاءً طويلاً؛
لتَشِمِينِي بخرافاتِكِ
وأكاذيبِكِ المُشتَهاةِ،
هذا آخِرُ شِتاءٍ في جُعبتي
فتَعَالى لي.

شَجرتَان نَحنُ. ناحِلٌ أنا،
ووارفةُ الأغصانِ
تمشِين والفراشاتِ.
تُصبِّحُكِ الطيورُ بالخيرِ
والغناءِ الشّاسِعِ؛
فتلُمِّينَ الأوراقَ الذابلةَ،
وتبكين في الخَفاءِ،
تَطْلُعِين على الناسِ
بالضَحكِ،
وجسدٍ يفيضُ برائحةِ
الذُّكورَةِ؛
تُشْرِقُ أمُّكِ بشبابِها الذابلِ،
ثمَّ تلطَعُ أصابِعَها المُدمّاةِ
على البابِ.
الأشجارُ تموتُ واقفةً،
تعرفين هذا طبعا!
على حالِنا سنبقي دهورًا
من الأوراقِ تتساقطُ
في الهوّةِ القريبةِ.
يا عيني علينا!
إذ يعترينا الخريفُ
الطويلُِ.

كقامةِ النهرِ؛
قطراتٌ لا تملكُ مصيرَها
ويفاخرُ النهرُ بذلك.
دموعُكِ وقامتُكِ الرشيقةُ،
أعلمُ أنّي  أُضحّي؛
كأنّي مَلكُ الزمانِ  
أقومُ من سُبَاتِي جافًا
كعتبةِ بيتٍ مهجورٍ.
وأنتِ تأخذين
أكثرَ ممَّا تعطين
لأنَّ العارفين بكِ قِلّةٌ.
يهيّأُ لي أنّ ما يحدثُ الآن
لأنّي ما خبِرتُكِ حقّاً،
أمْ دموعٌ
أصابَتْ العينَ بالاحتقانِ؛
لأنّ خيولاً تعدو خَبَبًَا؟
ما أجملَ الخببَ
في جَبينِ الليلِ الأخرسِ!
لا أملكُ يقينًا؛
فما تظنّين أنّي فاعلٌ بكِ؟
وجهي على لوحةِ الليلِ
وجهُ أسلافي في الكهفِ
والغابةِ.
أنا آدمُ الحَديدِ واللغةِ.
 
نحُلمُ أنّا جِذران
ضَاربان في العائلةِ
والناسِ،
قصةُ عشقٍ تُلمِّعُ  
حضورَنا الباهتَ.
لمّا قالتْ صديقةٌ :
"عيونُه فاتنةٌٌ
وأصابعُه نحيلةٌ".
بكيتِ أمامَ الجِدارِ
وحقدٌ يأكلُ قلبَكِ
كنباتٍ طُفيليَّ.
هَمستِ قبِّلنِي بسرعةٍ
قبلَ أنْ يبرُدَ الغيمُ الخريفيُّ.
برعونةٍ صدّقتُ
كذبَكِ الفاتنَ؛
ليصيبَني في مَقتَلٍ
هذا التصحرُ.
أنا ولدٌ صغيرٌ عليكِ
وكبيرٌ في عينيِكِ،
فكيف تستقيمُ المعادلةُ؟
واحدٌ طويلٌ كنهرٍ
وواحدةٌ ناضجةٌ كرُمَانَةٍ.
لا اللغةُ
ولا الإشارةُ تحمِلُنا،
صمتُنا الوحشيُّ
سِيرَتُنا الحقيقيّةُ.
هل كنَّا كاذبين لهذا الحدِّ،
مستخفّين بالقلبِ
وَوَجِيبِهِ المَفضُوحِ؟
يا قسوتَنا!
نتلاقي كغريبين
بأوّلِ الدّربِ،
كأنّنا ظلِان
تبدهُهُما الشمسُ.

 

تعليق عبر الفيس بوك