العلاقة المنشودة بين السلطات الثلاث

عبيدلي العبيدلي

من الموضوعات التي تُثيرها الانتخابات النيابية في البلدان الديمقراطية، هي واقع، ومن ثم الصلاحيات التي تتمتع بها أي من السلطات التي تتولى تنظيم العلاقة السليمة المنشودة بين مكونات العمل السياسي في البلد المعني، والمقصود بهذه السلطات: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية.

ومسألة الفصل بين السلطات قديمة في فضاء الفكر الإنساني السياسي، والبعض يرجع أصولها إلى حقبة الحضارة اليونانية القديمة، مستندا في هذه العودة إلى ما جاء في كتابات أرسطو وإفلاطون، عندما اجتهد الأول مناديا "بضرورة وجود ثلاث وظائف؛ هي: وظيفة المداولة، وهي من اختصاص الجمعية العامة أو المجلس الذي يقضي في المسائل الهامة، وظيفة الأمر والنهي التي يقوم بها القضاة ووظيفة القضاء التي تقوم بها المحاكم". وقد حث أرسطو حينها الممسكين بمفاصل النظام السياسي على "توزيع السلطة فيما بين الهيئات المختلفة، لتتعاون مع بعضها البعض تجنبا للاستبداد".

ومن جانب آخر، وفي الحقبة الإغريقية ذاتها، كان إفلاطون أكثر وضوحا في تقسيم "الصلاحيات" بين السلطات الثلاث تلك، فوجدناه يرى أن "وظائف الدولة يجب أن توزع بين هيئات مختلفة بالتوازن والتعادل حتى لا تنفرد هيئة واحدة بالحكم وتمس بالسلطة والشعب؛ مما قد يؤدي إلى وقوع انقلاب أو ثورة، ولتجنب فصل وظائف وهيئات الدولة، على ان تتعاون بينها وتراقب بعضها البعض منعا للانحراف".

هذا يُثبت أن تقنين صلاحيات كل سلطة كان الهم المشترك الذي شغل بال هؤلاء الفلاسفة حينها.

على أنَّ الجذور الحديثة لموضوعة الفصل بين السلطات تعود لبداية الحركة التنويرية التي اجتاحت أوروبا في القرن الرابع عشر الميلادي، وامتدت تأثيراتها مع بداية "القرن السابع عشر حين طالب المفكر الإنجليزي جون لوك في كتابه "الحكومة المدنية" عام 1689م، بإعطاء سلطتي التشريع والتنفيذ لمؤسستين مستقلتين لكي لا يتجاوز الحكام في سلطاتهم، وجاء بعده في القرن الثامن عشر المفكر الفرنسي جان روسو في كتابه "العقد الاجتماعي"، وتحدث عن توزيع السلطات الذي يؤدي إلى توزيع الصلاحيات فيها لإدارة الحكم، أما المفكر الفرنسي مونتسكيو الذي عاش في القرن الثامن عشر (1689-1755م)، والذي تنسب له نظرية فصل السلطات، فقد توسع في شرح وتوضيح المبدأ في كتابه "روح القوانين" الذي صدر عام 1748م، واستطاع فيه صياغة آرائه بكيفية أعطته مكانة ضمن المبادئ والنظريات السياسية؛ لذا اقترنت الفكرة باسمه رغم أن هناك آخرين سبقوه".

لا بد من التوقف هنا من أجل التنويه إلى ما أثاره هذا الموضوع من جدل واسع في صفوف من عملوا في فضاء التأسيس لنظم عادلة تحكم المجتمعات الحديثة، بمن فيهم أولئك المفكرين العرب من أمثال رفاعة الطهطاوي، وعبد الرحمن الكواكبي، الذي اكتسب شهرته من وراء نشر كتابه القيم "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". وأكثر من ذلك كان الكواكبي قد "أمضى سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام 1902م".

خلاصة القول: إنَّ بناء نظام ديمقراطي، بغض النظر عن هوامش الحريات التي يتيحها، بحاجة مستمرة للحفاظ على مقومات وصيانة صمامات أمان الفصل الواضح بين السلطات، لضمان استمرار عمل صيانة مقومات الحفاظ على حقوق الإنسان التي لا يمكن الاستغناء عنها في أي مجتمع حديث معاصر.

على أن ما يجب فهمه هو أن تلك الهوامش المتاحة من الحريات لا ينبغي لها أن تتعرض لأي من الممارسات التي من شأنها تقزيم حجمها، أو حرفها عن مسارها الصحيح، نظرا لقصر نظر من يستمتع بها، أو رغبته الملحة كي ينجح في لي رقبتها، ومن ثم تسخيرها لصالح أهداف ضيقة تخدم مصالحه الآنية، من خلال النفاذ من ثغرة أباحتها له القوانين الدولية المعمول بها اليوم.

لكنَّ الأهم من كل ذلك هو ذلك التطور الذي نعمت به المجتمعات الحديثة، وقاد إلى تداخل مسؤولية الدفاع ذلك الفصل بين السلطات من أجل الحفاظ على هذا التوزيع بينها، والتمييز بين مسؤوليات وصلاحيات كل من يمارسها. فبروز ما أصبح يعرف باسم المجتمع المدني، وتنامي دور منظمات المجتمع المدني، أدى إلى إعادة رسم خطوط الهوامش التي كانت تفصل بين صلاحيات كل سلطة، لصالح تلك المنظمات التي باتت تمارس أدوارا متزايدا عندما يتعلق الأمر بالصلاحيات. وهذا بدوره ألقى على كاهلها مسؤوليات لم تكن تمارسها في بداية انطلاقتها، وفي المراحل المبكرة من عمرها.

الأمر المحزن في مسيرة تعزيز قيم الديمقراطية في البلاد العربية خلال المئة سنة الماضية، ما جرى من تسييس مُمنهج لهذه المنظمات، تمَّ على نحو مبتسر، أفقدها الكثير من حيويتها التي هي في أمس الحاجة لها عند الحديث عن الفصل بين السلطات على نحو سليم، وجردها ذلك التسييس من القدرة على النمو من جانب، وامكانية المساهمة على نحو فعال في أية عملية تحول ديمقراطي، من جانب آخر.

وبخلاف أوهام البعض أو ترويج البعض الآخر، لا تنحصر مهمة الدفاع عن فصل الصِّلات على مؤسسات الدولة الحاكمة فحسب، بل هي تمتد كي تمس -وبعُمق- صلب مسؤوليات كل قوى المجتمع، وفي المقدمة منها تلك التي تنتمي للقوى المعارضة. ففي أحيان كثيرة، عرف تاريخ تطور الديمقراطي في البلدان العربية استخداما سيئا من لدن تلك القوى عند معالجتها هذه المسألة او ممارسة حقوقها التي تبيحها لها قوانين الفصل.

عليه، لا بد من التأكيد على أن المساس بعذرية تلك الفواصل أمر محرم ليس على إدارات الدولة فحسب، وإنما يشمل مكونات العمل السياسي كافة، هذا لمن يدعي أنه يؤسس لمجتمع ديمقراطي أصيل، يكون فيه ذلك الفصل محدد المعالم، واضح السمات، وتطبق قوانينه على الجميع دون أية استثناءات غير مبررة.