موسم زفاف الخريحين: أين كرسي العلماء والباحثين؟

د. سيف بن ناصر المعمري

إنه موسم زفاف الخريجين إلى مدرجات التخرج أفواجاً أفواجاً في كل مكان، إنها اللحظة الفارقة التي يرتدي فيها هؤلاء الخريجون أزياء التَّخرج الفاخرة، ويخرجون إلى هذا اليوم بصورة مُختلفة عن تلك التي دخلوا بها كلياتهم وجامعاتهم، اللحظة التي تبدو فيها الصورة برَّاقة وجميلة لا تكشف إلا عن الشهادة الموضوعة في إطار مخملي فاخر، هذه الصورة الجميلة التي تظهر لنا كل أسبوع تدفعنا إلى طرح تساؤل على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية: هل تعتني مؤسسات تعليمنا العالي بجوهر عملية التعلم بقدر اعتنائها بحفلات التخرج؟

هذا السؤال ليس إلا مفتاحا أود أن ألج به إلى موضوع أكبر وأخطر حول حقيقة دور مؤسسات التعليم في استثمار المورد البشري، ليكون المحرك الحقيقي لصناعة المُستقبل الذي رحلنا إليه قبل أن يأتي من كثر الحديث عنه في كل السياقات، ولكننا لن نصل إلى هذا المستقبل إلا بتغير فلسفات مؤسسات التعليم العالي، وتغير المُخرجات التي تقدمها سنويًا، وهذا ما نود أن نركز عليه في هذا المقام، لأنه ليس هناك وقت أفضل من مواسم الزفاف للتفكير في النفقات والتكاليف، والمعقول وغير المعقول، ومن الذي سوف يدفع الثمن في النهاية، ومن الذي سيظل مدينًا حائرًا حين ينفض العرس، ويعود المدعوون كل إلى عالمه، وبعد أن توضع تلك الصورة البراقة في الألبوم، من سوف يظهر الصورة التي تبدو بعد ذلك، إنها الأسئلة التي تطرح على مُتخذي القرار في البلد، وتعليمنا أصبح أجمل ما فيه هو حفل التخرج، وأكثر شيء متقن فيه هو حفل التخرج، وأصدق صورة تنقل عنه كما هي هي حفل التخرج. ما الذي تريده البلد من التعليم لكي تحقق ما وضع من أحلام وآمال في الاستراتيجيات الكبرى؟ ما الذي تُريده من التعليم لكي تصنع نهضة اقتصادية مُستقلة غير مرتبطة بالمورد الواحد؟ ما الذي تريده من التعليم لكي تُقلل من ضغط ملف بطالة الخريجين أو عملهم في أماكن غير تلك التي تخصصوا فيها؟ لنجيب على الأسئلة نقول إنَّ التعليم بالنهج الذي يمضي فيه هو الذي يُعيق النهوض في مختلف المجالات، وهو الذي يزيد من بطالة الخريجين، وهو الذي يقود البلد إلى استمرار التبعية للخبرات الخارجية حتى في القطاعات التي تبدو غير مُعقدة مثل التعليم وبناء المناهج، والتعليم هو الذي يكرس حالة العجز الاقتصادي حين لا يستطيع الخريجون لضعف المهارات بناء مشاريعهم أو تحويل مشاريعهم القيمة إلى مشاريع إنتاجية، إنَّ السبب في كل ذلك يكمن في عدم مناسبة فلسفة الكليات والجامعات وما تحتاجه التنمية ويواكب التجارب المتقدمة فعلاً، الجامعات والكليات جيش من المنفذين للأعمال دون تفكير أو إبداع أو تطوير، وما تحتاج البلد هو وجود جيش من العلماء والباحثين والمهندسين المؤهلين لترجمة الخُطط على أرض الواقع في مختلف المجالات، كم نسبة العلماء والباحثين النابغين من كل هذه الأعداد التي تخرجت في هذه الفترة من الذين لديهم قدرة ومهارات على الاستمرار في البحث عن حلول وعلاجات للإشكاليات التي نواجها اقتصادياً واجتماعياً وطبيًا وبيئياً وصناعيًا؟ كم نسبة المهندسين المؤهلين من هذه الأعداد الكبيرة التي لديهم قدرة على ترجمة الأفكار التي ترسمها فئة العلماء والباحثين كمشاريع على أرض الواقع، بأقل كلفة وأفضل أداء وأقل نسبة من الأعراض الجانبية؟

لا أعتقد أنَّ جميع مؤسسات التعليم لدينا قادرة على الإجابة عن هذه الأسئلة فهي أصلاً لا تكترث لهؤلاء حتى لو ظهرت بوادر نبوغ لديهم، بل إنها لا ترى أنَّ من ضمن مسؤوليتها العمل على إيجاد قاعدة عريضة من هذه النوعية من الخريجين من أجل بناء قدرات علمية يُمكن الاعتماد عليها بدلاً من الاعتماد على الخبرات الأجنبية، وجعل مجتمعا تابعا باستمرار غير قادر على استثمار قدراته الوطنية في صناعة واقعه، والتخطيط لمستقبله، وإذا كان الهدف الحقيقي هو تخريج جيش من ذوي المهارات المحدودة التي تمكن من تسيير الأعمال البسيطة والحفاظ على استمرار دوران العجلة، فعلينا أن ننتبه ماذا لو توقفت العجلة من سيعمل على إصلاحها؟ بكل تأكيد أفضل سيناريو لذلك هو الاستعانة دائمًا بالخارج؟

هذه هي حقيقة نظام التعليم العالي لدينا، وهو نظام لا يتجدد إنما يدور في نفس المكان حتى لو حاولت بعض المؤسسات الالتفاف على ذلك بالحصول على شهادات الاعتماد الداخلية والخارجية فلن يُغير ذلك من نهجها وفلسفتها شيئا، والمؤسف حقاً أن كبار متخذي القرار في مؤسسات التعليم العالي يعملون على الهروب إلى الأمام من هذه الحقائق ويسوؤهم حديثنا عن النوعية والجودة والتقييم، كما أسر لي الحديث بعض ممن حولهم، لكننا حين نتحدث عن مصالح وطننا العليا لا يعنينا إلا أن نرضي ضمائرنا العامرة بحب الوطن الذي عُمّر بالعلم والمعرفة، وسُيّج بالإبداع والابتكار، وهذه المعطيات لابد أن تكون دافعاً لمؤسسات التعليم العالي لإعادة النظر إلى المستقبل بصورة جدية، لا يعقل أن تكون مؤسسات التعليم متأخرة في أنظمتها وأهداف ونهجها وإداراتها عن بقية المؤسسات المدنية وغير المدنية في تطوير آلياتها إلا إن كانت تريد أن تظل كما هي عصية منيعة تمنع رياح التغيير التي تهب من مُختلف بقاع العالم على مؤسسات التعليم العالي.