محمد جبير
قد تبدو هذه العتبة استفزازية بعض الشيء، وتثير جدلا في قبول أو رفض هذا الإعلان الذي لا يعني الحاضر السردي في الوطن العربي، وإنما يعني مستقبله في ما بعد الحداثة، وإن فرص رفض هذا الإعلان أكثر من قبوله لدى المثقف العربي، أمّا لو جاء هذا الإعلان من مثقف غربي فإنه يلقى المقبولية والترويج والتبني، وذلك لأننا أمة أقوال لا أفعال، إذ نتمسك بالوصف وكأنه دليلنا للدخول إلى قلب وعقل الآخر لما اعتادت عليه الذاكرة العربية من أن الأذن تعشق قبل العين أحيانا، كما أن الوصف لغة تضعنا في موقف الحياد من الجدل الحياتي وهو ما يجنبنا إشكاليات تبني الطروحات الحديثة والتي قد تكون مغامرة في بعض الأحيان.
فقد استهجن طيران عباس بن فرناس، وعد تصرفا أهوج غير مقبول، ولم نقبل شطحات جون فيرل في "الصعود إلى القمر قبل أكثر من مئتي عام، لأننا نتقبل ونستمتع بنص "قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل" ولانقبل "ولما دخلت الخدر خدر عنيزة .....قالت لك الويلات إنك مرجلي".
نرى مما تقدم أن سلطة الجهل مهيمنة في رفض الأفكار الطليعية الراهنة ولاتقبل التجديد في الأفكار أو حتى لا تدعو إلى التفكير، لذلك يكون الرفض أسهل من التقبل، لأن الرفض سكون، والتقبل حركة نحو الأمام.
لذلك لم يعد الوصف عنصرا أساسيا في السرديات الحديثة، وإنما فقد بريقه بعد أن غادر الكاتب الروائي التشكيلات اللغوية البلاغية التي عادة ما تؤطر المشكلة الاجتماعية التي يتضمنها المتن الروائي، وأصبح الوصف عنصرا لاحقا بعد أن كان عنصرا متقدما، وهو ما يؤشر تقدم البنية السردية للحكاية على اللغة والكلام اللذين هما أداتا الخطاب والحكاية،إلا أن هذه الأداة ليست أداة قيادة النص، وإنما هي العصا التي يتوكأ عليها النص في إنشاء هيكله البنائي العام.
انزياح الوصف أنتج نسقا سرديا موازيا له من خلال الفعل والحركة، ليضفي عنصر التشويق على ما يمكن أن يتوالد من صور في الذاكرة الإنسانية يمكن استدعائه عبر الجمل النصية التي توثق الأفعال والحركات في النص السردي، إذ لم يعد ملزما تأثيث النص العام بنصوص وصفية تهدف إلى إضفاء إطار زمكاني وتحديد فضاء الحدث.
الوصف... ممارسة نصية
لكن يبقى الوصف في حده المجرد خارج المتن السردي ممارسة نصية خارجة عن السياق الحدثي أو الحكائي بشقيه المنطوق والمدون، إذ إن المدونات النصية الحديثة قد تذهب إلى خلق وحدات نصية تعتمد المهارات اللغوية من جناس وبديع ومحسنات بلاغية أخرى لتؤكد الثراء اللغوي في قاموس هذا الكاتب أو ذاك، لكنها في حد ذاتها تصبح عنصرا معيقا إذا لم تستثمر بشكل فني إبداعي بمعنى إزاحة الوظيفة اللغوية لصالح الوظيفة الفنية الجمالية.
وإذا قيل سابقا إن الوصف هو تصوير الأشياء فإن المراحل المتقدمة أعادت صياغة هذا المفهوم وأطلقت "الرسم بالكلمات" ليكون عنوانا لديوان شعر، ونفت الحداثة المعاصرة صفة الواقعية عن الوصف وعدته نصا له وظائف ومميزات وأنواع، ومن بين تلك الأنواع ماهو كرونولوجيا "وصف الزمان" وطوبغرافيا "الأمكنة والمشاهد" وبروزغرافيا "وصف المظهر الخارجي للشخصيات "وانطوجيا" وصف كائنات متخلية "وهذ هو التقسيم الذي ذهب إليه فيليب هامون.
وفي هذا الصدد يذكر رائد الرواية الفنية في العراق " عبد الحق فاضل " في كتابه " قصتي" الاتي " لم يكن من دأبي في كتابة القصة أن أصف البيئة أو أتحرش بعناصرها المحايدة ، لمجرد الزخرفة والتفاصح. فان لم تدخل هي في "الشؤون الداخلية "من عملي أدعها وشأنها، ولا أعطيها بطاقة دخول الى نسيج قصتي ." قصتي –ص9" ويضيف ايضا " حتى الاشخاص لا أهتم بوصف مظاهرهم وملامحهم ، وانما أترك للقاريء حرية تصورهم كما يبدون له من خلال ماأصوره من شمائلهم وسرارئهم" ." ص5" . وهو الامر الذي نلمسه بشكل واضح في مستهل روايته " مجنونان " والتي صدرت في العام 1939 ، أذ جاء ذلك المستهل في جملة قول " هاكم مجنونا" ." الرواية –ص7".
هذا الكلام قيل بحق الوصف قبل اكثر من ثمانين سنة ، هذه النظرة الاستباقية تضفي على النص السمة الجمالية التي لابد ان يتحلى بها النص السردي في حين كان اغلب كتاب الرواية يغرقون في وصف الامكنة والاشياء والاشخاص وأمور أخرى تثقل كاهل النص السردي .
ويرى كاتب أخر رأيا مختلفا أذ يقول " ترى لماذا يفكر كل الذين يكتبون شيئا عن حياتهم أن يصفوا الأماكن التي درجدوا عليها ، وجالوا في أزقتها ، وأختلطت دماؤهم بمائها وهوائها ، وتداخلت طبيعتها معهم حتى شكلت نفوسهم بشكلها ؟ انهم يفعلون ذلك ، تجاه أمكنتهم ، لأن الانسان انعكاس لها ، يحمل تفاصيلها ، ويتشكل على طريقتها " ." عبد الله ثابت ، رواية الارهابي 20، ط6 ، دار الساقي بيروت –لبنان ، 2015" ص11".
وفي نص" بيت السودان" لا يستكين محمد حياوي إلى جملة الإنشاء في الوصف وإنما يذهب بعيدا عنها مهتما في بناء حكايته عبر متوالية حدثية متعددة الاتجاهات والمستويات السردية، ناثرا حكايته بين سطح وعمق معتمدا المربع السيمائي في السرد الإبداعي، إذ ليس ما يظهر على سطح النص هو كل ما يقال أو موجود، وإنما هو إطار الحكي السردي الذي يريد أن ينثر النص على فضاء أوسع في إطلاقه من المخيلة إلى الورق، هذا السطح الورقي الأبيض، هو ما يشكل فضاء لعبة النص في سطحه الظاهري.
حتى إنه في بنيته للحوار السردي يعيد تشكيل الحدث وفق قراءات متعددة توحي للمتلقي بمستويات خلق الصورة السردية من دون أن يكون هناك تكلف أو تزويق لفظي في رسم المشهد أو وصف الحادث، وتتجلى هذه العملية عن طريق الأخبار في الحوار، مما يضفي تعددية الصورة للمشهد الواحد بين الشخصيات لاسيما بين "عفاف وعليوي"، وللتشخيص وليس التعميم أقتطع هذه الجملة الحوارية من المقطع الأخير في الرواية "جرتك ياقوت جرا وسط ألسنة اللهب وصعدت بك إلى السطح ومن هناك ساعدتك على اعتلاء السياج وطلبت منك أن تقفز، فرفضت بشدة وكنت متمسكا بها، لكنها خلصت ذراعها منك ودفعتك بقوة بعد أن وعدتك بالقفز خلفك".
إلا أنه على الرغم من ذلك يصرّ على روايته أنه قفز من نافذة فندق الهناء من أجلها، لم يشأ الكاتب أن يقدم وصفا تفصيليا لحرق البيت من قبل جماعة سيد محسن المسلحة ولم يشر من قريب أو بعيد إلى موت ياقوت وفتياتها في البيت، وإنما جاء كل ذلك عن طريق الحوار تاركا صورة الحوادث الدامية ترتسم في مخيلة المتلقي وفق إدراكه لصورة الحدث، سعيا وراء تشكيل الصورة المنتجة، وهي بمثابة قراءة جديدة للنص.
"قلت كفى،أتوسل إليك .. ياقوت ماتت، والبنات متن جميعهن وجدتك عجيبة كذلك.. متن جميعهن بسبب الحريق الذي أشعله سيد محسن وجماعته.. ألا تفهم؟..لِمَ لاتريد أن تصدق الأمر؟.. إنكارك له لايغير من الأمر شيئا ياحبيبي".
مما تقدم لابد لنا أن نعترف اليوم قبل فوات الأوان أن الوصف لم يعد نكهة النص الروائي، وإنما هناك ما يعوض عنه في الفعل والحركة والحوار، وذلك حسب مهارات الكاتب في العبور إلى شواطئ الإبداع عبر كسر حاجز الرتابة والثوابت لتحقيق منجزه الإبداعي وترك بصمته في الزمن الحالي للأجيال المقبلة.