قصة قصيرة:

موت مارات

 


أحمد عصام الدين صلاح | مصر
منذ أن حصلت ليلى على منحة لدراسة الهندسة في فرنسا، و هي تعمل بدوام جزئي في مكتبة الجامعة، حتى تزيد من دخلها، فتستطيع تحمل نفقات السكن الباهظة. وعلى الرغم من حياة المغتربين المليئة بالتوتر و تحمل المسئولية، إلا إن ليلى لم تنس أن تستمتع ببلاد الفن و الجمال. فتقتنص العطلات الرسمية. وتذهب لزيارة معالم مدينة تلو الأخرى. ففي باريس زارت متحف اللوفر وبرج أيفل و قوس النصر وشارع الشانزلزية الفخم. و اقتطعت عطلة أسبوعية أخرى من أجل زيارة قلعة بواتيه، التي حافظ معماريوها على طابعها التاريخي، حيث تتداخل المنازل الحديثة مع أسوار القلعة و مبانيها، فلا تعلو عليها ولا تنقص من عبقها شيئًا. و بالطبع لم تغفل زيارة شواطئ مارسيليا البديعة.
و في عطلة من العطلات، قررت ليلى السفر إلى بروكسل. و بعدما انتهت من زيارة كنيسة نوتردام وكاتيدرائية القديس مايكل والقصر الملكي والمتحف الملكي للفن، قادتها قدماها إلى ضاحية من ضواحي المدينة، حيث وجدت ما أثار فضولها.
بعدما هدأ صخب المدينة و أخذت المباني  في التفرق، رأت بيتًا عتيقًا عظيم الحجم. يشغل مساحة كبيرة. يتكون من عدد من المباني المتفرقة و حديقة غيداء تنشر الشذى العطر حولها.
ظنته في بداية الأمر بيتًا خاصًا بإحدى الأسر الغنية. ولكن كان البيت خاليًا، و لم تكن هناك أي إشارة تدل على سكناه. لا عربات فارهة، و لا حراسة. لا شيء على الإطلاق. فأخذت تدور حوله، تتمشى و تستمتع بالرائحة العطرة التي تنشرها أشجار الحديقة، و تتأمل حلاوة المعمار على الرغم من بساطته. و بعدما أدركها التعب بسبب طول اليوم، جلست تحت شجرة على جانب الطريق الرئيسي الذي يطل عليه البيت.
كانت الشمس قد أوشكت على الغروب، و اكتسى الأفق باللون البرتقالي الذي امتزج مع خضرة الطبيعة في مشهد ساحر، خلب لب ليلى. و لم تستفق إلا على سؤال أحدهم عن سبب جلوسها وحدها في ضاحية المدينة!
فالتفتت إليه، فوجدت أمامها كهلًا ثائر الرأس. يحمل وجهه طابع الجدية، بعينين واسعتين و أنف مدبب، و حواجب كثة، و شفتين مبرمتين. فارتابت منه ليلى، و سألته، "من تكون؟"
فأجاب الكهل بصوت مبحوح، "أنا جاك. رسام فرنسي. وأعمل مدرسًا في جامعة بروكسل. و ماذا عنك؟"
لم تنبس ليلى. و بعد فترة من الصمت الغريب قضاها الكهل في فحص مظهر ليلى و ملابسها، تحدث أخيرًا، "يبدو من ملامحك أنك شرقية".
صمت برهة تبعها بسؤال آخر، "هل أنت هنا من أجل السياحة؟"
حركت رأسها موافقة، ثم قالت، "أنا ليلى، طالبة مغربية، أدرس في فرنسا. و قد أتيت لقضاء العطلة في بلجيكا".
فسألها جاك، "ما الذي جاك بك إلى هذه الضاحية إذا؟"
فردت بتلقائية، "بعدما فرغت من المرور على كل الأماكن المميزة التي نصحني زملائي بزيارتها، حملتني قدماي لتلك الضاحية. و ها أنا ذا أمام هذا المنزل الذي أثار فضولي. فهل تعرف عنه أي شيء؟"
لمعت عيناه، و رد عليها بلهجة مفعمة بالحماسة، "بكل تأكيد أعرف هذا البيت. لا يوجد أحد من المهتمين بالرسم و تاريخه إلا و يعرفه. فهذا كان منزل الفنان العظيم جاك لويس ديفيد في منفاه!"
ردت ليلى بنبرة متسائلة، "و من هو جاك ديفيد؟!"
أحكم الكهل معطفه حول جسده النحيف، ثم أجاب، "كان جاك لويس ديفيد أحد أشهر الرسامين الفرنسيين، ليس في فرنسا وحدها بل في أوروبا كافة. و لكن عمله بالسياسة و تأييده للثورة الفرنسية ضد الملك. أثارت ضده حفيظة حاشية الملك و عامة الناس من متبعي الكنيسة وقتها. فاعتبروه خائنًا. و بعدما فشلت محاولات استمالته من الملك و الحاشية، و بسبب مكانته الكبيرة كفنان و علاقاته القوية، تم الاكتفاء بنفيه إلى بلجيكا ليقيم في هذا المنزل، و يُدّرِس الفن".
ازداد فضول ليلى لتعرف المزيد عن جاك ديفيد، فسألت، " و ما الذي حدث له بعد ذلك؟"
اكتسى وجه جاك الكهل بالأسى و صوته المبحوح بنبرة حزينة مكسورة، "للأسف لقد تم اغتياله. ففي يوم من عام 1825 و أثناء عودته من عرض مسرحي، صدمته عربة بحصان و بعدما تأكد السائق من موته امتطى الحصان و ترك العربة و فر هاربًا".
و بعد لحظة صمت استطرد حديثه، "بعد وفاته فرح كارهيه من النبلاء     و العامة في فرنسا. و لم يكفهم منع زوجته من دفنه في باريس، فزادوا على ذلك بأن تخلصوا من أعماله بزهيد المال. إلا أن محبيه حافظوا على تراثه عن طريق شراء ما توصلت إليه أيديهم من أعماله. و عن طريق إقامة متحف في محل منفاه ها هنا. و يمكنك أن تجدي أشهر أعمال جاك ديفيد كـ"موت مارات" تخليدًا لذكرى اغتيال صديقه و "تجريد فينوس لمارس من أسلحته" و باريس و هيلين" و "جسد هيكتور" من حرب طروادة في متاحف بلجيكا و فرنسا و أمريكا و غيرها".
ردت ليلى بنبرة متأثرة، "للأسف بعض الأشخاص لا يجدون التقدير الكافي إلا بعد الممات".
مرت لحظات الصمت مثقلة بالتأثر بطيئة كابية، حتى قطعتها ليلى بسؤالها، "متى يمكنني دخول منزله للزيارة؟"
فأجابها جاك، "يمكنك ذلك في صباح الغد".
فشكرته على وقته و معلوماته، ثم استأذنته لكي تعود للنزل بسبب تأخر الوقت، و مضت نحو المدينة. و عندما استدارت لتسأل الكهل إذا كان سيعود أم سيبقى، لم تجده!
في اليوم التالي، أثناء زيارتها لبيت الفنان جاك لويس ديفيد، بعدما مرت بأغلبية غرف المنزل، و وجدت به ما راق لها من لوحات بديعة لجاك ديفيد و أثاث أنيق رغم بساطته، رأت ما أرعبها من هول المفاجأة. فصورة جاك المرسومة المعلقة في حجرته  كانت تشبه جاك الكهل الذي قص عليها الحكاية ليلة أمس!
نفس الشعر الثائر و العينين الواسعتين و الأنف المدبب، و الحواجب الكثة، و الشفتين المبرمتين!
لم تدرك لذلك تفسيرًا، فسمت الله و استعاذت به من الشيطان. عادت إلى نُزلها مسرعة لكي تجمع أشياءها و تعود لباريس قبل نهاية العطلة.

 

تعليق عبر الفيس بوك