الحداثة الممتنعة في الخليج العربي (2-2)

عبيدلي العبيدلي

يمهد د. النجار للفصل السابع والأخير من الكتاب، الذي أعطاه عنوان "الثقافة والمثقفون" بمقدمة نظرية يجتهد فيها من أجل التأصيل لهذه العلاقة، ويستعين المؤلف هنا بما ذهب له غرامشي في هذا الخصوص؛ إذ "لا يقصر غرامشي الثقافة على عمل المثقف، بل يرى فيها نتاجا للفعل الاجتماعي العام للمجتمع. ومن هنا يرى غرامشي أن جميع البشر مثقفون، مع استدراك أن ليس جميع البشر هم من ممارسي وظيفة الثقافة. وإن كنا نستطيع التحدث عن مثقفين، فالحديث عن غير المثقفين لا معنى له" (ص:423).

ويؤسس د. النجار موقفه على هذا المدخل قائلا: "بهذا المعنى، يقترب غرامشي في تعريفه للفعل الثقافي من التعريف الأنثروبولوجي، أو بالأحرى التعريف الاجتماعي العام والواسع، الذي يرى أن الثقافة ليست من فعل الخاصة أو خاصة الخاصة، بقدر ما هي نتاج عام لكل أفراد المجتمع بفئاته وجماعاته... "ص: 423 و424).

وبدوره، يرى د. النجار أنه حين يتناول موضوع الثقافة فهو لا يتحدث عنها "كنسق مستقل عن الأنساق الاجتماعية الأخرى، بل كونها فعالة ومؤثرة فيها كما هي متأثرة بها. وبهذا المعنى ليست شأنا تجريديا متعاليا على الزمان والمكان اللذين هي جزء منهما..." (ص:424).

خُلاصة في غاية الأهمية، وتستحق المناقشة، وهي تلك التي يقول فيها د. النجار: "نخلص من ذلك إلى القول بأن اهتمامات السياسي بالثقافي لا تبدو أنه في كل الأحوال اهتمامات جادة او في غاية الجدة، وإنما تأتي لتوظيفه أو توظيف رموزه كآلية من آليات دعم الشرعية السياسية، أو دعم هيمنة الموقع السياسي على الأنساق الأخرى، أو أن ذلك قد يجيء من أجل تحقيق هدف الفكرنة أو عملا من قبل التجميل الفكري أو الثقافي للنظام السياسي (Intellectualize) أكثر من كونها عملية جادة لتثقيفه.

ورُبما يكون د. النجار محقا بعض الشيء، حيث طفت على سطح العمل السياسي/الثقافي العربي، وعلى وجه الخصوص الخليجي منه، خلال الثلاثين سنة الماضية، علاقة تكامل في صفوف نسبة لا يستهان بها من المثقفين الخليجيين، بل وحتى العرب، ممن نصبوا أنفسهم فيما يمكن أن نصفه بـ"مثقفو السلطان". والسلطان العربي هنا ليس بالضرورة من هم في الحكم فحسب، بل حتى من هم في صفوف قادة الأحزاب السياسية العربية التي خارج إطار محيط السلطة الحاكمة. فحتى هؤلاء لم يتورعوا عن "خصي الثقافة العربية" -إن جاز لنا القول- من أجل إخضاعها لمصلحتهم، دون أن يأبهوا بما يقود له مثل هذا السلوك.

ويتطرَّق النجار هنا إلى علاقة الثقافة بالسياسة، ويكشف أن طبيعة هذه العلاقة وآلياتها تعطي الغلبة للسياسة على حساب الثقافة، ثم إن "تعاطي الدولة في الخليج العربي مع الشأن الثقافي، وتحديدا الثقافة الإبداعية، غالبا ما يكون مشكلا أو متأثرا بمواقف الجماعات الدينية أو القبلية أو لتحالفهما... (مضيفا) لقد أثبتت عقود التنمية الماضية، ليس في منطقة الخليج العربي فحسب، وإنما في المنطقة العربية الفقر والوحشة التي أضحت عليها مجتمعاتنا في ظل غياب الثقافة أو تهميشها" (ص:428).

يُشاطر د. النجار هذا الرأي في السلبيات التي أفرزتها -مثل تلك- على واقع الثقافة العربية، كُتَّاب من أمثال سالم اليامي في مقال "أزمة الثقافة العربية وإخفاقات الأمة"، نشرعلى موقع "إيلاف" الإلكتروني، يؤكد فيه "أن مشكلة الثقافة العربية الرئيسة تكمن في ارتباط تلك الثقافة بالأدلجة الدينية والسياسية؛ مما يجعلها دائما في خدمة تلك الأيديلوجيا، بحيث يلجأ رجل السلطة الأيديولوجية إلى استخدام تلك الثقافة عبر المنتمين إليها، بما يحقق غاياته السلطوية، وحينما تخضع الثقافة لسلطة الأيديولوجيا، فإنها تفسد وتنحرف عن مسارها الأخلاقي والقيمي الذي يجب أن لا يُهَادن سلطة مستبدة، ولا يتنازل عن حق الإنسان في العيش بحرية".

في اختصارٍ، يشير النجار إلى أزمة بنيوية في الثقافة العربية نظرا للواقع الذي تعاني منه والأسباب التي تحول دون بروز ثقافة عربية مبدعة، ويورد تأكيدا لهذا الرأي خمسة تحديات لا تزال تواجه مثل تلك الثقافة المبدعة التي يدعو لها (ص:429 و440)، يمكن تلخيص هذه التحديات في النقاط التالية:

- التحدي السياسي، او بالأحرى "التحدي القادم من النظام السياسي".

- التحدي المنبثق من رحم "المجتمع ذاته، وقواه الاجتماعية المختلفة".

- التحدي الذي يولده رجال الثقافة أنفسهم؛ كونهم "متعاطو ومنتجو الثقافة الإبداعية، أو مدَّعو إنتاجها من حيث ضعف حضورهم على المستوى المحلي، كما على الصعيد الإقليمي".

- التحدي القادم من المؤسسة التعليمية؛ جراء "عجز النظام التعليمي عن أن يكون محركا وباعثا للثقافة بصورها الجديدة".

- ثمَّ هناك التحدي الذي "فرضته طبيعة العلاقة مع الغرب، كما فرضته حقيقة وحجم موقع الغرب في هذه العلاقة".

هذه التحديات في حدِّ ذاتها تضع إطارا شاملا يلخص "أزمة الثقافة العربية" الراهنة التي لامس د. النجار لُبَّها، وألقى المزيد من الأضواء على بواطنها.

وفي سياق تناول أزمة الثقافة العربية، نجد د. رضوان السيد يتناول أيضا -في أحد مقالاته- هذه المشكلة، قائلا: "إن المشكلة فيما أرى تكمُن في تضاؤل العروبة والعربية والعرب في الموازين العالمية الثقافية والعلمية والسياسية. وهو أمرٌ يجعل شباننا قليلي الاعتزاز بانتمائهم بل يهربون منها. فما دام أهل هذه الأرض، وهذه الثقافة، ليسوا حريصين عليهما، فلماذا يحرص الآخرون على مراعاة الحرمة، وعلى الاحترام لهذه الثقافة التي كانت عالمية؟ كيف يمكن تجديد العروبة وثقافتها في أوساط شابنا؟ وكيف يمكن بعث دوافع الدفاع عن الثقافة العربية المستنيرة، ودولة الحكم الصالح، باعتبارهما أمل المستقبل؟ هذه هي المسألة".

وهناك الكثير مما قاله د. النجار حول موضوع "أزمة الثقافة  العربية" التي تفتح شهية المنخرطين في صناعة الثقافة العربية من أجل الغوص في أعماقها، إمَّا بحثا عن أسبابها، أو من أجل الوصول إلى حلول شافية تساعد على انتشالها من الواقع المؤلم الذي هي فيه.