التقارب والاختلاف بين الشريعة والحقيقة

محمد عبد العظيم العجمي – مصر


هل هناك حد فاصل بين الشريعة والحقيقة.. أم يتماهى أحدهما في الآخر حتى يكادا يمتزجا، أم يتعارضان أحيانا ويتفقان أحيانا، أم هما وجهان لنفس العملة وفصلان مكملان في ذات الكتاب ..؟ تتعثر الجواب أحيانا ويسهل أخرى، ويظل الطرح محلا للنقاش والخلاف والوفاق، والشد والجذب .. فمن اختلاف الأفهام وتوارد المشارب، " وكلهم من معين الحق ملتمس // غرفا من البحر أو رشفا من الديم" ؛ نقف بشيء من التأمل لاستجلاء المعاني مستعينين بصحيح الفهم المأخوذ عن متانة الأصل وسماقة الفرع ، وطيب عنصر شجرة العلم ، مستحذرين من كل حاطب ليل وزارع شوك وصائد في الماء العكر، يتبع الهوى ويشذ عن الصراط، ويضرب الكتاب بعضه ببعض .. "حار أرباب الهوى في الهوى وارتبكوا" .
فالشريعة معلومة : وهي خلاصة الأمر والنهي الرباني الذي ورد في الكتاب والسنة ، ما تناول العبادات والمعاملات ؛ أي ما يكون بين العبد والرب، وبين البشر وبعضهم البعض.. ومدار الشريعة على ثلاثة محاور هي : " الإسلام ، والإيمان ، والإحسان"، كما جاء في حديث جبريل المشهور، وكما جاء في القرآن الكريم " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)"الشورى. "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)المائدة..
فالدين في الآية الِأولى مقصوده عقيدة التوحيد أولا، ثم الإيمان بما آمن به الرسل من أولي العزم من قبل " بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره،  ثم الحلال والحرام مع اختلاف تفصيل الشرائع الذي عنت إليه الآية الثانية "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" أي تفصيل للحلال والحرام والكيفية التي بها تقام الشعائر وتدون المعاملات وتؤدى الحقوق بين الناس ، من الزواج والطلاق والعتاق والبيع والشراء وخلافه ..
وأما وجه الاختلاف الذي طرأ بين المفهومين فهو على ثلاثة أحوال: فمنهم من ينشد استكمال الجانب الروحي أو القلبي أو الباطني عند إقامة الشعائر المقصودة في الآيات (العبادات)، ومنهم من يقول : أن أمر الشريعة لا ينفك عن الحقيقة ؛ فالأمر الإلهي في ذاته يشمل القالب والجوهر ، والشكل والمضمون ، والبدن والقلب .. وإذا لا تصبح بنا حاجة إلى هذا التنطع والتأويل الذي لا مسوغ له؛  فإن الأمر قد ورد على ظاهره وطالما أقيم على وفق ما ورد به الشرع و بما أداه المبلغ الأول عن الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل به صحابته من بعده وسلفهم المتبعون بإحسان فلا حاجة بنا إذا للوقوف على ما لم يقفوا عليه ..
  وأما الرأي الأخير فهو يفصل بين الأمرين فيجعل لكل أمر ظاهرا وباطنا، وحقيقة تمثل الحكمة المقتضاة من الشرع، فإن بلغ بجهده وعلمه وما فتح عليه هذه الحكمة فقد حقق المراد ، وبلغ المنتهى ولا حاجة به بعد ذلك بما يقوم به أصحاب الرسوم وأرباب القوالب(كما يدّعون) ..
وهكذا تظل سنة الاختلاف، وتعددية الرؤى وتدافع الخواطر مع مرونة الشريعة ومتانتها ، ولادة لكل القضايا المطروحة التي تقبل تعدد الفهم ، مادامت النصوص تقبل التأويل ما لم نشط بها عن سواء الصراط وعن قواعد العلم المعهودة المعروفة.. ولنا أن نتوقف عند كل رأي من الآراء بالتفكر والنظر .
فلم يرد في نصوص الشرع (الكتاب والسنة ) صراحة ما يفيد أن للدين حقيقة وشريعة ، وإنما إن قبل هذا الطرح فإنه يقبل على سبيل استخلاص الفهم من الكتاب والسنة أيضا، وليس من قبيل الشطط أو الشطح ؛ وإنه مما لا يختلف فيه: أن الإيمان قول وعمل، أو عمل بالأركان وتصديق بالجنان ، وأن من شروط الإسلام والإيمان أن يكون القلب مقرا بما ينطق به اللسان وما تأتي الجوارج " وَقَالَ يَحْيَى بْن سَلِيم الطَّائِفِيّ قَالَ هِشَام عَنْ الْحَسَن: الْإِيمَان قَوْل وَعَمَل فَقُلْت لِهِشَامٍ فَمَا تَقُول أَنْتَ فَقَالَ قَوْل وَعَمَل، وَقَالَ الْحُمَيْدِيّ سَمِعْت وَكِيعًا يَقُول وَأَهْل السُّنَّة يَقُولُونَ الْإِيمَان قَوْل وَعَمَل وَالْمُرْجِئَة يَقُولُونَ الْإِيمَان قَوْل وَالْجَهْمِيّةُ يَقُولُونَ الْإِيمَان الْمَعْرِفَة وَصَحَّ عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ الْإِيمَان بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْب وَصَدَّقَهُ الْعَمَل وَنَحْوه عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيِّ" . عون المعبود في شرح سنن أبي داود .
وفي الحديث : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِذِ اسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟» قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ حَقًّا، قَالَ: «انْظُرْ مَا تَقُولُ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ قَوْلِكَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، أَوْ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا، قَالَ: «أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ»، وفي حلية الأولياء للأصبهاني من حديث سويد بن الحارث قال " وَفَدْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ قَوْمِي فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ وَكَلَّمْنَاهُ فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ سَمْتِنَا وَزِيِّنَا فَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ؟» قُلْنَا: مُؤْمِنِينَ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ قَوْلِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ؟.. الحديث » .
إذا فلا بد لكل إيمان من قول وحقيقة ؛ وفي الآية " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ .. (41) "المائدة ..
فالداعون لوجوب الحقيقة مع الشريعة هم الذين نهلوا من فهم هذا الحديث "إن لكل قول حقيقة " ، ومن تأويل الآيات التي تنفي الإيمان عمن آمن بلسانه ولم يعلق بالإيمان قلبه، ولم تشارب حقيقته باطنه .. فهؤلاء أخذوا الحقيقة من هذا الفهم، وهو فهم لا يعارض نص الكتاب ولا السنة ؛ وعليه.. فإنهم زعموا أن الشريعة لابد لها من تحقق بالقلب وتفاعل بالروح وعمل بالجوارح ، وحين يغيب حضور القلب في العبادة (كما قال الغزالي في الإحياء) وكما ذكر كثير من المتصوفة كالإمام القشيري في ذلك: "الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، وكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فأمرها غير مقبول، وكل حقيقة غير مقيَّدة بالشريعة فأمرها غير محصول، والشريعة جاءت بتكليف من الخالق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضى وقدّر، وأخفى وأظهر".
والعبادة حين تخلو من حقيقتها فهي كجسد بلا روح وشجر بلا ثمر، وإذا فرغت من حضور القلب فإنها لا تؤتي أكلها ولا تينع ثمارها ، ولا تحقق المطلوب منها كما أراد الله لها في القلب ، ثم تغدو على صاحبها غبنا وخسرانا
" فجعلناه هباء منثورا " ، ومثل ذلك نفهمه من حديث المسيء صلاته الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، فقال "ارجع فصل فإنك لم تصل" ، وذلك كما فهم من الحديث حين علمه النبي أن صلاته خلت من الطمأنينة ، لذا عدها النبي صلى الله عليه وسلم كأنها لم تكن ، وكأنه لم يؤدها.
ونكاد نلمس هذا في الحديث القدسي " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ "رواه البخاري، وفي قول الله " كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)القلم.

تعليق عبر الفيس بوك