الـ "هايكو".. شِعْر بنكهة الساموراي

 

 

محمد علي العوض

 

لا يكاد العالم يعرف من تاريخ اليابان سوى أنّها أرض محاربي الساموراي قبل أن تكون مسرحا لقنبلة هيروشيما الذريّة، أو مصنعًا لسيّارات "تويوتا" و"نيسان" أو أجهزة "باناسونيك" و"الإنسان الآلي" والتقنيات الحديثة التي جعلت اليابان "كوكبا" آخر يبتعد عن تخلفنا التقني مئات السنين الضوئية..

كوكب بهذا البعد المجازي ليس غريبا أن نجهل أدبه لمظان عدة؛ أولها أنّ اللغة ربما حالت دون الوقوف عليه، وثانيها أن البعد المكاني والجغرافي كان له دور كبير في عدم الاحتكاك الأدبي وسبر أغوار آداب وفنون أقاصي آسيا. وثالثا تبعيّة العرب -ثقافيا- للمستعمر الإنجليزي والفرنسي؛ الأمر الذي أثّر على اتجاهاتنا المعرفيّة وتَحرُّك مؤشر البحث غربًا لا شرقًا.

بمقاييس التقادم يعتبر الأدب الياباني حديثا نسبيا، فأقدم أثر أدبي ياباني وصل إلينا يرجع للقرن السابع الميلادي، وسُمّي بـ "مقتطفات العشرة آلاف ورقة" وهو عبارة عن أربعة آلاف قصيدة نظّمها شعراء القرنين السابع والثامن.

لم ينفتح هذا الأدب على العالم وقرائه إلا في القرن التاسع عشر فعرف الناس حينها شعر الـ"رنغا" والـ "هايكو"؛ أحد أشهر الأشكال الشعرية اليابانية؛ والذي ازدهر في مرحلته الأولى في القرن السابع عشر على يد "باشو"، المعلم الأول لهذا الفن، وأعمدته الثلاثة الشاعر "بوسون" و "ماسا" و"إيسّا".

كان الهايكو في بداياته اليابانية الأولى يتألف من ثلاثة أسطر، مكونة من خمسة مقاطع في السطر الأول، وسبعة مقاطع في السطر الثاني، ثم خمسة في السطر الثالث والأخير؛ أمّا الهايكو العالمي الحديث فقد تحرر من قيد عدد المقاطع اليابانية القديمة وبعض الخصائص الأخرى:

قالوا للظلمة

إنّ الشجرَ يورقُ فيكِ

فصدقتْ

 

يسعى شعر الـ"هايكو" من خلال بساطة اللفظ ومباشرة الأسلوب إلى الإمساك بجوهر الأشياء والحقيقة الغائبة؛ فهو "ليس فن تركيب الصور الخيالية بقدر ما هو فن رؤية الأشياء الموجودة حولنا أصلا.." فالـ"هايكو" كشّاف يسلط ضوءه على مشاهد عادية أو مألوفة نمر عليها يوميًا دون انتباه، ويدفعنا لتغيير قناعاتنا القديمة بتلك المشاهد، فهو أشبه بكاميرا تصوّر الجانب الآخر من المشهد؛ فيمنحه الـ"هايكو" فكرة جديدة ورؤية مختلفة كما في قول الشاعر الياباني "رانسيتسو":

بلا صوت،

يمضغ سيقان الأرز الصغيرة،

اليسروع يتناول غداءه

فالشاعر هنا يحيلنا إلى صورة مألوفة في المناطق الزراعية، وهي صورة اليسروع أو الجرادة المنهمكة في تناول غذاءها في الحقل؛ لكنّ ألفاظا من شاكلة "بلا صوت" "يمضغ" "سيقان" "الصغيرة" توسع مجال رؤيتنا، فالساق هو الدعامة الحاملة للأوراق والموصل الأساسي للماء والغذاء بين أجزاء النبات وذو صلة بعملية التمثيل الضوئي، وحين ترى جرادة تلتهم عضوًا نباتيا بهذه الأهمية فهذا بداهة يعني موت النبتة، وبالتالي يحيلنا لحقيقة صادمة وخطر داهم هو "المجاعة" بسبب آفة الجراد؛ حيث يقول الخبراء إنّ جزءًا من سرب الجراد يمكنه أن يلتهم في اليوم ما تلتهمه عشرة أفيال أو 25 جملا أو حوالي 2500 شخص.

الأمر الأكثر بروزا في شعر الـ"هايكو" هو الإيجاز والجمل الموحية القصيرة ببنيتها المضغوطة، وشدة التكثيف، والتشطيبات الدائمة لكل ما هو زائد أو استطرادي، وتعويض هذا الاختزال بفيض من الدلالة والإيحاء؛ وينتهج الـ"هايكو" نهج "المقابلة" والجمع بين صورتين متضادتين، تاركا تحليلهما لذائقة القارئ وذهنيّته في استنتاج الرابط بينهما فحين يقول "باشو":

مسافرٌ

على طريق الجبل الصعب

أسرّتكَ أزاهير البنفسج

يجمع بين صورتين متعاكستين "الجبل الصعب" الوعر و" أزاهير البنفسج" المتفتحة؛ فالصورة الأولى دلالة على المشقة والرهق وتعب النفس؛ لأنّ مشهد تسلق الجبل الصعب يوحي بالتعب المفضي ربما إلى السقوط أو المرض بينما تدل الصورة الثانية على انفراج الأسارير فأزهار البنفسج بلونها الجميل دلالة على راحة النفس، والأدهى أنّ أزهار البنفسج تُستخدم في صناعة بعض الأدوية؛ وهنا صورة الداء - الجبل- تقابل صورة الدواء -البنفسج-.

في السابق كان شعر الهايكو يُعبر عن الطبيعة، ويشترط وجود كلمة ذات دلالة موسمية أو زمنية، وقد تتجاوز ذلك إلى ظواهر طبيعية وإنسانية واجتماعية وثقافية مرتبطة بفصل ما أو زمن ما كما في قول "إيسا":

تبني الطيور أعشاشها

في بداية كل ربيع

وهي تعرف أنّ مصير الأشجار السقوط

أو في قوله الآخر:

تهب رياح الخريف

على كوخ عاهرة..

كل مرة بأربعة وعشرين سنتًا.

الآن بحكم المعاصرة ونشوء المدن المضيئة وتقهقر الإحساس بالطبيعة ومكوناتها تغيّرت شروط الهايكو؛ فلم يعد مطلوبًا من الشاعر الذي يستخدم الكمبيوتر الكفي والسيّارة الالتزام بالإيقاع المقطعي أو أن يقحم مفردات الطبيعة في شعره كما في شعر العراقية بشرى البستاني:

السيّارة التي دهستني

ليلةَ أمس

كانت بيضاءَ جدًا

تأتي تعابير الهايكو على شكل دفقة أو نقلة مفاجئة، تكشف عن حالة التناقض أو هيئة التعارض، وهذا ما يسميه اليابانيون بالقطع، وبمعنى آخر هو الجملة الصادمة التي تكشف كنه هذا التعارض وهنا تكمن شعرية الهايكو وجوهره، فجملة (كانت بيضاء جدا) في الابيات السابقة تتعارض مع (ليلة أمس) لأن الليل حالك السواد، كما أن البياض اتخذ رمزا للسلام والوضوح الذي يتناقض نوعا ما مع مفهوم "الدهس".

لم يعد الهايكو ملكًا لليابانيين وحدهم؛ فقد أضحى ظاهرة عالمية حين خرج من نطاقه المحليّ الضيق إلى آفاق أرحب، وبات يكتسب شعبيته في العالم لاسيما بين كتاب العربية فها هي إيناس أصفري من سوريا تقول:

في الزُّقاق القديم

مع كُلِّ قطرةِ مطر

بعضُ ذكرى

 

أما مواطنها علي ديوب فيقول:

المقصلة الصدئة

تزيّنها

طحالبُ حمراء

 

وتقول معزة ساتي من السودان:

بلا مراعاة

يسرق جهد الفلاح

طائر

 

وعلى ذات النمط تقول:

أسمال بالية

لم تقه تقلب الفصول

خيال المآتة

 

وفي موضع آخر تكتب:

كل نبضة قلب

يحسبها هي العدو

عقلي