شُرفات الخيمة

جميل الجميل | العراق

 

في ما مضى كنتُ أجرّ قرية
أرى فيها
عسكرة الطرق والبنايات
أرى فيها أسلحة تبحث عن عازفيها
وطفلة ترفع خيطا
أرادت أن يسحبها فأخذها يغازل أبديتها
*****
اليوم
أعطش سريعا
لا صنابير مياه صالحة
الخيمة أحملها على ظهري
كلّما مررت قرب قصرٍ أجلس أمامه
أسرق بعض ملامحه
لكنها تصغر
وأنا كلّ يوم
يسحبني خيط الطفلة فأصير أطول من الخيبة
وأنام على رصيف
أتظاهر بأنني مجنون
لا أمدّ يديّ للمارّة
أنام فقط
والقرية منشورة على شرفات الخيمة
*****
الأمهات النازحات علّقن أثداءهن على شرفات الخيم
الأطفال المعلّقون على حبال الغسيل
تحت شرفة الخيبة
يفتحون حلوقهم
العملية سهلة جدا
مثل عطشان في صحراء
ويظنّ بأن الهواء يُسقط ماءً ليشربه.
*****
الأطفال الذين تناسلوا كالديدان
كان سهلًا عليهم أن تصرخ أمهاتهم في الخيمة
و(هناء) التي كانت تسحب أرحام النازحات
تأخذ الحلوى على كل طفلٍ
لتسمن أمّها النحيفة.
*****
الفوضى التي أحدثها الوطن أو الطبيعة
طيّنت أطفال (البالة)
لكنّ قبّرة ما
أنهكها الطين
فدخلت خيمة وفطرت مع النازحين.
*****
الباص الذي حمل أطفال الأنابيب
والنازحات النحيفات
والخيمات
والخيبات
سلكه الشارع المغلق
فرجع الوقت به حزينا
يقطع صهيل الأرصفة, يتذكّر وسادة المنفى
وصوت أنثى سمينة تدفع الياسمين بكامل لياقتها
وصراخ المناجل المختبئة في الحقائب
لا ليس باصا ولا محطة تزويد النازحين بوقود الوقت
لا ليس بيتا
تسير معه أروقة القنطرات والبنايات الشاهقة
والإناث اللاتي لم يحضن
والفتيان الذين مارسوا عاداتهم السرية في الخيمة
والآباء الذين سكروا وأضاعوا منفاهم
وكنيسة ومدينة وحديقة وذكريات!

لم يكن باصا ولا مدرسة
دخان السجائر وروائح الاشتياق الكريهة
وطبق النارنج
وأعواد أسنان مغطاة بشفرات حلاقة
كلّها تسير معه
*****
يا أيّها الباص
كيف تحمل شعبا؟
تفوح منه سنابل أرضه
يمضون وتسحقهم كآبة الروتين
يغرقون بسجن أنفسهم في دوّامة النزوح
لا لم يكن باصا
كان طينا تخبزه الأمهات, تعجنه المراهقات, يأكله الفتيان, يمضغه العجوز المغمور بالنشوة,
لم يكن باصا كان مدينة مرمية فوق بيوتات قرية
مدينة
تمطرها الأزمنة
تحشو البلدان ديدنها بها
مديييييينة مليئة بالباصات الموقوتة بالصمت
*****
في الجهة الأخرى بيتٌ
شرفة البيت, مليئة بقناني الوطن
داخل خيمتنا
رسمت وسادة وحمّاما
كلّما أتحمم تضيق بي دجلة
أفتح الخيمة
أرى شرفات كثيرة
ودكّات يجلسن النحيفات عليها بصمت
*****
في مؤخرة المدينة دكّان يبيع الأوطان
كلّما أمرّ لشراء وطن أو بيتٍ
يعتقلني الأنتربول
ويُخرج كلّ البيوت من رأسي
*****
ملأتُ أكياسا من رائحة الخبز
ونكهة (دلخما)*
وبعض الكتب
وقليل من ناقوس الطاهرة
كلّ يوم أفتحها
فتكبر الخيمة
صارت خيمتنا كبيرة جدا
حسدونا عليها,
الأنتربول يقصّ خيمات النازحين لئلا يشغلها الحيز
ونحن تكبر خيبتنا والأكياس تقلّ لذّتها
*****
حبيبتي
تنثر جدائلها على الخيم
تحلّق
تاركة إيايّ أنثر دمي
كيف تُهرّبين نفسكِ؟
وظهرك وطن
وجهك قمر
وملامح جسدك أضخم من (عشتار)
ضحكتك عذراءُ ما مسّها شيء
آه لجدائلك التي كنت أخيّط جروحي بها
هذه الحرب ستجرحني
من سيخيط جروحي?
*****
يا حبيبتي
الطيور هناك لا تغرّد
أصواتها قبيحة
والبنايات لا تحية سلام لها
الناس يلحقون بعقارب الوقت
وأنتِ
طفلةٌ يموج بها النهار
ينضح وجهها بالنارنج
تجدّد الأرض دورانها بضفيرتك الحبلى بالمكان
يا رنّة النواقيس
يا ملامح الناي وهو يحترق على شفتيك
كيف تثقبين قلبي
بعزفك المنفي
كيف تهاجرين وتتركين كيلومترات من الحزن المتراكم في قلبي
كيف تتركين وابلاً ينهش ديمومتي
هل هناك وردات تشبهك?
هل هناك أساطير تصنع مثل معجزاتك?
*****
قرب الخيمات أشجار وعرة
الخيمة رقم 7
خيمة حبيبتي
هي نرجسة النزوح
سوسنة الخيم
عيناها مثل أبراج التحكم
تترقب الوجوه
تلتقط صائد النظّارات الأعمى
شفتاها بحر هائج
أحمر شفاهها يجرّني, تلتقطني بأنفاسها
*****
يا حبيبتي
لم يكن الوطن عادلا
الآن سافرت الخيمة رقم 7
كلّما أستيقظ صباحا أستنشق منفاها
صرت معاقا
أنتظر أن تعود
.....................................
هامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(دلخما) : كلمة باللغة السريانية تُعني الخبز.

تعليق عبر الفيس بوك