وظيفة المثقف في زمن الأزمات

د. يحيى أبوزكريا

يفترض في الأزمات الكبرى التي تعصفُ بالمجتمعات والأمم أن يلتقِي العقلاء والمفكرون لإيجاد مخرج مما تعانيه هذه الأمم والمجتمعات، نعم يلتقي العقلاء ليرسموا الثوابت والمتغيرات ويحددوا معالم الطريق.

والذي حدث أن العقلانية غابت، وبرزت بقوة "جاهلية الفكر" والسباب والتخوين والعنتريات والمذهبيات والعصبيات، ودفعة واحدة اختفى العقل، وأصبح التسابق نحو القتل والقتل المضاد والرغبة في الاستئصال. وفي النهاية، إذا كان هذا وضع النخب والإنتليجانسيا، فكيف يكون وضع الأمة العربية والإسلامية!!

هل يُمكن أن نهدأ قليلا ونفكِّر بعُمق: ما الذي يجري لنا؟ وإلى أين سنذهب؟ وهل يُمكن أن نتعاون لإطفاء النيران التي تحرق كامل العالم العربي والإسلامي؟

ومشكلة الإنتليجانسيا العربية -بمختلف مشاربها: الفكرية والأيديولوجية- أنّها دخلت في حروب أهلية فيما بينها، انعكست سلبا على عقول الناس الذين توزعت رُؤاهم وتصوراتهم بين ما تراه هذه النخبة وتلك، وقد أتاح هذا الانشطار الفكري للغير المتربصّ بمواقعنا وحصوننا أن يلج إلينا بأبسط الوسائل؛ فالقومي كان يصّر على أن لا خلاص للعالم العربي إلا بالقوميّة، والرأسمالي الليبيرالي كان يُصر على أن لا خلاص لهذا العالم العربي إلا بالليبرالية بشقيها المعتدل والمتوحّش، والشيوعي يرى أن طريق المجد هوعبر اعتناق الشيوعية التي لا يزال بعض الرفاق يعتقدون بجدواها الحضارية وأنّ الذي سقط هو النظام الشيوعي لا الأيديولوجيا الشيوعية، والديمقراطي يرى أنَّ الخلاص لن يتأتى إلا باعتناق الديمقراطية بمفهومها الغربي وذلك يتطلب القفز على العادات والتقاليد في مجتمعاتنا البدائية كما يسمونها، والإسلامي السُّني يرى أن لا مخرج من واقع التخلف إلا بالرجوع إلى ثرات السلف الصالح من هذه الأمة، والإسلامي الشيعي يرى أنَّ الخلاص يكمُن أيضا في العض بالنواجذ على الرؤية الإسلامية كما صاغها الإمام علي عليه السلام، وكل مدرسة فكرية وطائفة دينية ومجموعة أيديولوجية تقدم عشرات التبريرات والأسباب والبراهين للتأكيد على استقامة منطلقاتها وجدواها في الواقع المعيش.

وقد اختلفت هذه النُّخب في كل التفاصيل، في البديهيات كما في المسلَّمات، في التفاصيل كما في الجزئيات، في الأصول كما في الفروع، في المقدمات كما في النتائج.

وكلُّ نخبة أصبح لديها مشروعها ورؤيتها وإستراتيجيتها إذا كان لديها إستراتيجية، ومن هذه النخب نشأت حكومات كانت تلعن -بمجرد تأسيسها- عملَ الحكومات السابقة، وتعيد صياغة المشروع الحكومي في بُعديه: السياسي والاقتصادي، من جديد.

ووصل الاختلاف بين نُخبنا إلى عُمق البديهيات، ولعلَّ ذروة الاختلاف تجلت في المشهد العراقي حيث اعتبرت نخبة عربية أنَّ الاحتلال الأمريكي للعراق جائز ومسوغ باعتباره أزاح طاغية مُستبدا عن حكم العراق، وهذا وحده كاف ولا داعي للحديث في النتائج، فيما رأت نُخب أخرى أن هذا الاحتلال غير مقبول ومرفوض جُملة وتفصيلا، فرد عليهم الفريق الأول بأن الأمر لا يعنيكم، والعراق للعراقيين، ورد الفريق الثاني بأنَّ وجود أمريكا في العراق سيؤثر علينا في سوريا ولبنان وإيران وبقية المحيط العربي والإسلامي، وعندها رد الفريق الأول على الفريق الثاني بأن لعنة الله عليكم يا عُملاء صدام، وعقب الفريق الثاني على الأول بقوله: وألف لعنة عليكم يا عملاء أمريكا ونتاج عمليات الاستنساخ في  أوكار وكالة الاستخبارات الأمريكية.

وفي الوقت الذي دخلت فيه هذه النخب في مُلاعنة حقيقية فيما بينها، أخذت أمريكا تستحكم خطتها وتفعل مشروعها من جهة، ومن جهة أخرى فقدت هذه النخب وقارها الثقافي باعتبار أن "العقل الخراق" -كما كان يُسميه المعتزلة- يجب أن يستوعب كل الأفكار والرؤى.

ولن يتأتى لنا صناعة فعل نهضوي حقيقي إلا إذا توافقنا على أن الفرد للمجموع والمجموع للفرد، وأن النخب كلها تكمل بعضها بعضا، وأن تلاقح الأفكار واختلافها سُنة كونية وحضارية، وقد سُئل أحد الصالحين: لماذا خلق الله الإنسان الأبيض والأسود؟ فقال: حتى لا ينسب العجز لله تعالى. ومن سمات العقل البشري القدرة على الاختلاف والائتلاف، ولا يجب أن نجعل من اختلافنا خندقا لحروبٍ، كثيرا ما أفضت إلى حروب أهلية حقيقية، ألم تبدأ الحرب الأهلية اللبنانية على صفحات الجرائد بين الكتاب والمثقفين؟!!!