السياسة العُمانية خارج التنبؤات

 

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

 

في هذه المرة لم ترصد التنبؤات العددية تحركات السياسة العُمانية، ففي الوقت الذي كان الغموض يلف منطقة الشرق الأوسط وهي تموج بأحداث عصفت بكل ما هو قائم ومُتوقع ومن ثمَّ تُركت الساحة لتُديرها الصدف في ظل انسحاب اللاعبين الأساسيين وتبرئهم مما أحدثته أياديهم أو سياساتهم غير المُنضبطة ظهر فخامة الرئيس الفلسطيني محمود عباس مجدداً في مسقط حاملاً معه بقايا قضية أنهكتها أروقة المفاوضات وأقبية المنتفعين فلملم أوراقه ويمم إلى رجل السلام بعد أن أوصدت كل الأبواب في وجهه لأنَّه رفض التوجهات الممنهجة لتهويد القدس ومحو الوجود الفلسطيني فيها.

وعقب الزيارة التي امتدت لثلاثة أيام صدرت تصريحات واضحة وجلية من أبي مازن وأعضاء وفده بأنهم لجأوا إلى خيار الحكمة والواقعية في التعامل مع الأحداث بعيدا عن مُعطيات العالم الافتراضي التي رسمها البعض للقضية الفلسطينية لأكثر من 60 عاماً، ولقد أوضح الرئيس عباس أن السلطنة لا تنتفع من الخوض في القضية الفلسطينية بل ظلت دائماً سنداً وعوناً للخيارات الوطنية حتى ولو كانت تتعارض مع مواقفها في بعض الأحيان، لليقين بأن ما يقبله الطرف الفلسطيني ويراه خيرًا لشعبه وقضيته هو الخيار الأنسب ولو لم يتوافق مع توجهات السلطنة العامة لأنَّ الهدف في النهاية هو إقامة دولة فلسطنية وأن ينعم هذا الشعب بالأمن والاستقرار الذي افتقده عندما أمتلكه الجميع.

على نفس المقعد الذي جلس عليه الرئيس عبَّاس جلس بنيامين نتنياهو وكليهما يبحثان عن السلام المفقود ولا شك أنهما باتا مقتنعين بأنَّ جلالة السلطان المُعظم يمتلك المصداقية الكافية لبلوغ الهدف المنشود، ولذلك شدا الرحال إلى مسقط بعدما كانت وجهاتهما متعددة ومتنافرة خلال السنوات الأخيرة، وتبين للمرة الأولى أنّ السلام يُمكن صنعه في الشرق الأوسط بتعاون الأطراف الدولية الفاعلة في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وهذا ما بينه معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في تصريحاته التي خرج بها عقب زيارة طرفي القضية الفلسطينية.

إنَّ المتتبع والعارف بسياسة جلالة السلطان- حفظه الله ورعاه- لابد أن يتوقع خطوات جريئة ولكنها محسوبة بدقة فظهور جلالته واستقباله فرقاء القضية الفلسطينية ليس حملة رأي عام أو أي شيء آخر، كما قال البعض، بل هي ركون إلى الممكن بعيدا عن التأويلات، فالمتاجرة بالقضية الفلسطينية لأكثر من نصف قرن أوصلتها إلى هذا المشهد الكئيب في ظل تخلٍ دولي وانشغال أطراف عربية داعمة بقضاياها الداخلية وانقسام فلسطيني داخلي.

الآن باتت الحلول ممكنة وبضمانة رجل حكيم يده نظيفة وتوجهاته سليمة يشهد لها العالم أجمع والخيار يظل لطرفي النزاع ومدى إمكانيتهما للمضي قدماً في تحقيق الأمن والاستقرار لشعبيهما وشجاعتهما في التَّجرد من الضغوط التي لا تفضي إلى حل بل تزيد من عمق الجراح حتى تتبخر الآمال ويلجأ الناس للعنف وسيادة لغة الحرب على حساب لغة الحوار التي بموجبها تسقط كل الاعتبارات التي يتمسك بها الطرفان، ويسود التعايش السلمي، بينما تظل كل الخيارات مفتوحة للمستقبل، فإذا قدَّم السلام النموذج الأنسب تمسكت به الأجيال وإن أنتج موقفاً ضبابياً فلن يكون الوضع أسوء مما هو عليه اليوم.

لا أخفيكم أنني ككاتب في الشأن الوطني تفاجأت بالمشهد وأخذتني العاطفة بعيداً فرسمت صوراً باهتة لم تقنعني واستمعت لكثير ممن يتحدثون عن الثوابت العربية في القضية وسألت نفسي أين هي هذه الثوابت؟ وهل تبقى منها شيء؟ ومن هو الذي يستطيع أن يكون متمسكاً بها أفضل من جلالة السلطان وهو آخر الرجال الذين عاشوا كل المراحل واستطاع أن يرسم صورة مثالية للزعيم العربي الحُر، لذلك غلَّبت عقلي على عاطفتي ليقيني بأنَّ جلالة السلطان لم يقدم على هذه الخطوة دون حسابات ولم تكن هدية مجانية لعباس أو نتنياهو!