جودة التعليم العالي: تقييم القمة أم القاعدة؟

 

د. سيف المعمري

 

لا يزال التعليم العالي يواصل النمو بطريقة كبيرة، حيث تزاد أعداد الطلبة ومعهم أيضًا يزداد عدد البرامج والأساتذة، وهذا نمو ينظر إليه البعض بعين الرضا، ويعدونه قفزة كبيرة للتعليم العالي في بلدنا، ولا نختلف معهم في تقديرهم لأنّ التعليم نؤمن بأنّه القطارة الأهم لتحقيق النمو الاقتصادي وتعزيز شبكات الأمان الفردي والاجتماعي الوطني.

لكن هذا النمو المتسارع أوجد تحديا كبيرا لتحقيق الجودة الضرورية للحصول على مخرجات ذات كفاءة عالية تقود عملية النمو والتنمية والابتكار، ومن ينظر من هذه الزاوية إلى التعليم العالي يدرك أنّ الطريق إلى الجودة لا يزال شائكا وصعبا، ليس لأنه مشروع طويل الأمد – فذلك ليس فيه مجال الاختلاف، ولكن الخلاف هو في الطريق لتحقيق هذه الجودة، هل نحققها من خلال تقييم القاعدة أي الأساتذة والتشديد عليهم، أما من خلال تقييم القمة أي الإدارات المسؤولة عن التخطيط والإشراف على مؤسسات التعليم، وفحص قراراتها وسياساتها؟

لا شك أنّ هذا السؤال يعد أهم أسئلة تحقيق الجودة أو إفشالها، لأنّه يحدد لنا نواة الإصلاح الحقيقية، التي لابد أن نوجه لها الاهتمام لكي نخرج بتعليم عال ذي جودة بدلا من الدوران في نفس المكان والسعي إلى اختلاق نجاحات في الواقع غير متحققة، بل أحيانا المضي إلى التشكيك في كل التقيمات التي تخرج من مصادر مختلفة حول مخرجات التعليم العالي آخرها ما كان من قبل وزير التجارة والصناعة في محاضرته بالجامعة، وبالتالي نحن أمام واقع لابد أن نسعى إلى تحليله بشكل دقيق حتى نفهم لماذا لا نتقدم في تحقيق مشروع الجودة رغم عشرات القوانين واللوائح التي تصدرها الإدارات البيروقراطية التي تدير أجهزة التعليم سنويا والتي وصل بعضها إلى تقنين ما يجب أن يدرس دون السماح للأساتذة بحرية الإضافة لما يرون مناسبا من المعرفة والقضايا لطلبتهم، وآخر هذه السياسات التي أصدرتها إحدى المؤسسات المرموقة تنص على تحويل الصف الجامعي إلى صف مدرسي- رغم اختلاف الغايات التي تحكم كلا المستويين-  يتم فيه الدخول إلى تقييم الأستاذ الجامعي من قبل زملائه أو غيرهم، ومثل هذه السياسة لها محاذير كثيرة وانعكاسات على تغلغل ما يجري من ممارسات غير موضوعية على مستويات أعلى إلى الفصول الدراسية مما يفقد الأساتذة حريتهم الأكاديمية في التدريس والنقاش وتحويلهم إلى أدوات تنفيذ لا أدوات إبداع وتفكير، يذهبون ليلقون نفس الدرس المعد لهم وبنفس القدر، وحين يفقد الأستاذ الجامعي حريته الأكاديمية يصبح تدريسه مجرد ملقن لا صانع للمعرفة، إنّها صناعة الطريق الضيق للجودة.

هذا فقط مثال واحد نسوقه للتدليل على أنّ عقيدة الإصلاح الحالية هي تعتقد أنّ الأستاذ في أسفل القاعدة هو مركز تحقيق الجودة، وهناك عشرات الأمثلة التي لا يتسع المقام لذكرها هنا، أهمها إشغال الأستاذ بكثير من الأعمال الإدارية، والمكتبية، ومطالبته بأن يكون "سوبر مان" يعمل ليل نهار لكي تحقق المؤسسة ما تعتقد أنّه جودة، وهذا الخطاب حين يربط الجودة بالأساتذة يسعى إلى تحقيق غاية كبيرة وهي إبعاد المسؤولية عن القمة التي تمثل مركزا حيويا ومختبرا لصناعة السياسات والقرارات، واصطفاء نخبة تدافع عنها وتعمل على تنفيذها من دون نقاش، فهل القمة تمهد الطريق للجودة أم تقود عملية الالتفاف عليها؟

إن النظرة إلى الخلف لثماني سنوات مضت تتكشف لنا أنّه في الوقت الذي أخرجت عشرات السياسات والقوانين لتوجيه القاعدة لتحقيق الجودة، لم تصدر أي تقييمات أو تغييرات تمس القمة ومدى جودة قراراتها في تحقيق الجودة، ألا يمكن أن نفترض أنّ الجهاز البيروقراطي الضخم والمنظم والذي يدقق في الداخلين إليه بدقة ليبقي على تماسكه وتوجهاته حتى لو لم تقود حتى الآن إلى تقديم أي مؤشرات إيجابية في تحقيق الجودة بشهادة تقارير الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي مسؤولا عن الإخفاق في تحقيق الجودة التي تؤكد عليها الدولة في استراتجياتها المختلفة؟

إنّ الخطورة هنا أنّ الفاعل في مسألة صناعة السياسات هو واحد لا شريك له في المنظومة التعليمية، أي أنّ المجتمع المدني لا يحتكم على جمعيات متخصصة يمكن أن تضغط في مسألة تحقيق سياسات تعليمية أفضل، والأساتذة بالجامعات لا يوجد لديهم أية مجالس استشارية يمكن أن تكون شريكة في صناعة القرار وتقييمه، وممارسة حوكمة رشيدة بدلا من انفراد تقوم به إدارات مؤسسات التعليم وتصدر القرارات والسياسات وتنتقي ما تركز عليه ويخدم توجهاتها ومصالحها حتى وإن لم تقد إلى تحقيق الأهداف المنشودة وتتجاهل ما هو ضروري ويخدم الارتقاء بجودة العملية التعلمية، وهذه حالة عدم الاتزان في غياب ديمقراطية اتخاذ القرار قادت بعض متخذي القرار حتى على مستويات دنيا في بعض المؤسسات التعليمية إلى ممارسة ديكتاتورية وبناء نظام خاص به يتغول داخل المؤسسة ويعيق حركتها ونموها وتطورها، ويشتت جهودها ويصنع الصراع داخلها نتيجة التمييز والتفرقة، وتركيز الجهد على تعزيز المولاة بدلا من تعزيز الأداء الذي يصبح هدفا ثانوياً في سلم أهداف المؤسسة.

إنّ عملية فهم الجودة وسبل تحقيقها معقدة جدا، وأحسب من وجهة نظري أنّ الطريق الأساسي لتحقيقها هو تفكيك المنظومة البيروقراطية التي تنامت خلال السنوات الماضية، وأصبح لها هدف واحد هو توجيه سيرورة القرار لتحقيق مصالح ضيقة لا يمكن بأية حال أن تخدم كل ما تطالب به النخب المستنيرة في البلد من حكوميين ورجال أعمال وأكاديميين ومثقفين من جعل التعليم نقطة إطلاقة لتحقيق الآمال التنموية في ظل هذه التحولات، نقترب من نهاية هذا العقد والجميع أصبح يؤمن بأنّه عقد الآمال الضائعة في تحقيق الجودة، وأنّ هناك إرثا كبيرا خلفه هذا العقد سيحتاج إلى عمل مضنٍ وطويل إلى معالجته والتخلص منه.