السمع والبصر والفؤاد (2)


محمد عبد العظيم العجمي – مصر


نواصل رحلتنا مع هذه الحظوة (القرآنية) التي اختص بها الإنسانَ (كيانا ونفسا وجوارحا) دون سائر المخلوقات، يؤدب فيها القرآن ويعلم ، يهدي ويرشد ، ويثمن نعمة الخالق على المخلوق ليعلم قدرها فيقوم بحق ما منحت له هذه النعم، ثم يعلمه كيف تصرف النعم إلى ما خلقت له ، ثم كيف يؤدي شكر هذه النعم قدر المستطاع ، فهو لن يقوم حقا بأداء شكر إحداها ولو كانت الماء البارد (كما قال الحسن البصري ) ، فكيف بباقي النعم مع عظم قدرها،"وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم "،  
استكمالا لما استعرضنا عن نعمة السمع ، ونقلا عن موقع "الهيئة العالمية للكتاب والسنة ـــ أ.د : صادق الهلالي" يقول:
{" لقد ثبت الآن أن المنطقة السمعية المخية تتطور وتتكامل وظائفها قبل مثيلتها البصرية ، ولهذا يتعلم الطفل المعلومات الصوتية في أوائل حياته قبل تعلمه المعلومات البصرية، ويتعلمها ويحفظها أسرع بكثير من تعلمه المعلومات المرئية، قال تعالى: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) الحاقة.
 تطور منطقة التفسير اللغوي في قشرة المخ: تنمو وتتطور في قشرة المخ والتي تقع بالقرب من منطقة حس السمع وترتبط معها ارتباطاً أقرب و أوثق من ارتباطها مع منطقة حس البصر التي هي الأخرى تساهم في وظيفة الكلام والإدراك اللغوي عن طريق القراءة والكتابة.
إن هذا التقارب بين هاتين المنطقتين ناتج عن حقيقة تطور منطقة حس السمع ووظائفه في وقت مبكر وقبل نضوج منطقة ووظائف حس البصر. يتضح لنا من كل ما تقدم أن:
أ) جهاز السمع يتطور جنينياً قبل جهاز البصر ويتكامل وينضج حتى يصل حجمه في الشهر الخامس من حياة الجنين الحجم الطبيعي له عند البالغين بينما لا يتكامل نضوج العينين إلا عند السنة العاشرة من العمر.
ب) يبدأ الجنين بسماع الأصوات في رحم أمه وهو في الشهر الخامس من حياته الجنينية ولكنه لا يبصر النور والصور إلا بعد ولادته.
ج) تتطور وتنضج كل المناطق والطرق السمعية العصبية قبل تطورها ونضوج مثيلاتها البصرية بفترة طويلة نسبياً."} ..
هذا استعراض بسيط للموقف العلمي من قضية السمع والبصر، ثم نعاود مدارسة التناول القرآني في قول الحق: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، يعلم المشركون من خلال السليقة العربية والخبرة اللغوية وهو أربابهما ، يعلمون أن للقرآن وقع في النفس لا يلبث أن يصل إلى القلب فيؤثر فيه، وأن ذلك ليس إلا عن طريق السماع ، كما حدث في قصة الوليد بن المغيرة حين سمع من النبي صلى الله عليه وسلم سورة (فصلت) ، فكاد أن يؤمن، ثم وصف لهم ذلك القول الذي سمعه بقوله: "فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَعْنِي الْقُرْآنَ مَا هُوَ بِشِعْرٍ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَإِنَّ لَهُ لَنُورًا وَإِنَّ لَهُ لَفَرْعًا وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى " (دلائل النبوة للأصبهاني) ، ولذا فجل ما يخشونه منهم أن يسمع عامتهم وأبناءهم هذا القرآن فتغلب حلاوته عنادهم ، وتأسرهم طلاوته فيؤمنون به ، كما قال الحق " {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23].
ثم تأتي عليهم  لحظات التحسر على الذين عطلوا أسماعهم عن آي القرآن المبهرة التي كانت تتلى على أسماعهم ، فتعطلت بذلك عقولهم عن إدراك ما تبسط لهم من أيادي الخير والنفع الدنيوي والأخروي ، فاستحقوا بذلك الويل الذي تٌوعدوا به في قول الله " وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)لقمان، كما باؤوا بالحسرة وسوء الصحبة مع أصحاب السعير،  ولم يك ينفعهم ذلك النعي الذي ينعون به على أنفسهم أو يرد عنهم شيئا من العذاب " وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)الملك.
ثم تبرز مسألة في قوله تعالى : "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)النحل ، وهي أن السمع والبصر والفؤاد يتخلق مع الجنين في بطن أمه ، ومع ذلك فالقرآن يعطفه على الخروج من بطون الأمهات أي بعد مرحلة الولادة، وهذا يخالف الفهم الأول من القرآن والدلائل العلمية .. والرد على هذه الإشكالية هو هذا الفرق الذي ذكرناه في التعريف والتفريق بين الحاسة وهي (السمع ، والبصر) ، وبين الآلة التي تعمل بها وهي (الأذن والعين) ، فإذا كان يتم تخلق الأعضاء في الرحم بما فيها الأذن والعين، إلا أن حواس هذه الأعضاء وقوتها ( السمع والبصر) لا تعمل كاملة إلا بعد خروج الجنين من بطن أمه بأيام  تبدأ بالسمع ثم البصر ثم الفؤاد ..
كما نجد من مزايا تقديم السمع على البصر هذه المزية التي يتمتع بها السمع وهي : أنه يصاحب الإنسان منذ ولادته وحتى مماته (باستثناء الصم ) ، وهذه المصاحبة لا تنقطع حتى أثناء النوم ، فمع توقف عمل البصر عن وظيفته ومداهمة النوم للعين ، تظل حاسة السمع يقظة بدرجة معينة بحيث يتنبه الإنسان عند سماع صوت يوقظه، في حين تكون حاسة البصر متوقفة تماما..
 ولما أراد الله تعالى أن يحول بين أصحاب الكهف وبين اليقظة ليدعهم في سباتهم إلى أجل أراده ، قال " فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا" (11)الكهف، ولم يقل " فضربنا في آذانهم " ، وذلك لأن الضرب في الآذان يعني الصمم ، أما على، فيعني حجب الصوت عن الأذن دون وقوع الضرر عليها.
يتضح من استعراض الآيات التي يتعدد فيها ارتباط السمع بالعقل والأذن بالوعي ، ومن استعراض دلائل العلم الحديث التي لاتقبل التأويل أن تقدم السمع على البصرفي القرآن لم يكن من باب المصادفة ، ولا الترتيب العشوائي إنما كان عن حكمة بالغة ، قد عددنا بعضا منها ويبقى الله أعلم بمراده ، وتبقى حكمة الله غير محاط بها علما، إنما نتعرض لها بالتفكر والتدبر كما أمرنا" وفي أنفسكم أفلا تبصرون" فالتعرض لها امتثالا للأمر فيه أجر سواء أصبنا عين الحكمة أم أخطأنا ..
ولا يغني السمع عن البصر كما لا يغني البصر عن السمع كما يقول بن الرومي:
هل العين بعد السمع تغني مكانه         أو السمع بعد العين يغني كما تغني
أما البصر فهو : القوة أو الطاقة الناشئة عن آلة النظر وهي (العين )، ويسمي ذهاب البصر(عمى)، وزاغ البصر أي مالَ، و(بصر يبصر فهو بصير)، " وأبصر بمعنى: نظر بعينه أو علم أو أدرك أو رأى ، والبصير الخبير بالأمور. المعجم الوسيط" ، (أولي الأبصار) أصحاب العقول (الفخر الرازى ـ مفاتيح الغيب ).
وإذا كان السمع رافدا للقلب وقناة إليه كما ذكرنا ، فإن البصر لايزال كذلك، ومع تقديم بعض أهل العلم والتفسير والرأي السمع على البصر للأسباب التي ذكرنا، فلا يمنع هذا أن تكون صلة بين البصر والقلب مباشرة، فقد جاءت الآيات تذكر البصر في مواضع كثيرة تعني به البصيرة والعلم والإدراك وهذا لا يكون إلا من طريق القلب مع البصر، فجاء في قوله "قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ" (104) الأنعام، قال القرطبي في تفسيره  (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) الْإِبْصَارُ: هُوَ الْإِدْرَاكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، أَيْ فَمَنِ اسْتَدَلَّ وَتَعَرَّفَ فَنَفْسَهُ نفع. (وَمَنْ عَمِيَ) لَمْ يَسْتَدِلَّ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى، فَعَلَى نَفْسِهِ يعود ، وقوله " أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ "(40)الزخرف، قال صاحب الظلال: "وهم ليسوا صما ولا عميا، ولكنهم كالصم والعمي في الضلال، وعدم الانتفاع بالدعاء إلى الهدى، والإشارة إلى دلائله. ووظيفة الرسول أن يُسمع من يسمع، وأن يهدي من يبصر. فإذا هم عطلوا جوارحهم، وطمسوا منافذ قلوبهم وأرواحهم. فما للرسول إلى هداهم من سبيل ولا عليه من ضلالهم، فقد قام بواجبه الذي يطيق.
"وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا"(72) الإسراء، والعمى المذكور في الآية كما يقول ويجمع المفسرون أنه عمى البصيرة ، وهم الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله وصراطه المستقيم ، فكأنهم "عمي" عندما نكست فطرتهم بإعراضهم عن داعي الله وصراطه، ومن رزق نعمة البصر فلم يستعملها فيما خلقت له  فصار كالأعمى أو كالأنعام بل أضل، إلا أن أداة النظر شاخصة في وجهه ، ولذلك يحشر يوم القيامة على حالته التي كان عليها من عمى البصيرة وانطماس القلب وإنكار الحق، "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)طه ..
وقد يكون الجزاء هنا من جنس العمل وهو العمى عن طريق النجاة في الآخرة ،كما عمي عن أسباب الهدى في الدنيا ، وترك الله له كنوع من الإعراض والإهمال والازدراء كما أعرض عن آيات الله ونسيها في الدنيا، "وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)الجاثية.
وهذه المبالغة في الترك والإهمال أيضا هي جزاء المبالغة في الإعراض والاستهزاء بآيات الله التي كانت تتوالى عليهم آناء الله وأطراف النهار حتى من أنفسهم، فيصور القرآن هذه الحالة من الانكفاء على النفس واستغشاء الثياب صورة حركية تكاد تنقل إلينا مشهد المعرضين وهم في حالة نفور من الدعوة والداعي فيقول" وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا "(7) نوح ، ويقول" أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)هود، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (6) نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ وَكَانَ رَجُلًا حُلْوَ الْكَلَامِ حُلْوَ الْمَنْظَرِ، يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُحِبُّ، وَيَنْطَوِي بِقَلْبِهِ عَلَى مَا يَكْرَهُ، قَوْلُهُ: " يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ " أَيْ: يُخْفُونَ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالْعَدَاوَةِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: نَزَلَتْ فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ كَانَ إِذَا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَنَى صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ، وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَغَطَّى وَجْهَهُ كَيْ لَا يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

 

تعليق عبر الفيس بوك