عفاف طبالة تفك شفرة " الجندر" بالتكنولوجيا


د . جيهان سلام – مصر
                                                       
لايجوز أن نصنف الإنسان بناء على فقره أو غناه، أومدنيته أو قرويته  ، أو نصنفه بناء على  نوعه (الجنسي )، أو ( نوعه الاجتماعي) وهو  مايسمى  بـ (الجندر) وماتعانيه الأنثى من تمييز لصالح الذكر في كل شيء، وقد كانت قضية (الجندر)  هي الخيط الممتد في كثير من أحداث رواية " فك شفرة " للكاتبة عفاف طبالة ، وتجسدها الشخصية الأولى السيدة "تماضر" ذات السبعين عاما ، والتي مارست مهنة التدريس  ، ولم تسر على الخط التربوي الجامد والمتخلف ، فحملت على عاتقها كل معاني الاجتهاد والتفرد ، عبر مفاهيم تربوية صحيحة ، بعيدا عن التلقين والحفظ : كالتعلم الذاتي ، والعصف الذهني ، والخرائط الذهنية ، والحكي ، ولعب الأدوار ، والتعلم التعاوني ، وكل أساليب التعلم النشط  ، ومراعاة الفروق الفردية ، مما أدى إلى تعرضها للاضطهاد من قبل السلطة المدرسية التي يتبوأها ذكور يميلون إلى الجمود في كل شء، وقد رأوا فيها (أنثى) متمردة على الأعراف  بأساليب جديدة تؤدي إلى الفوضى ــ من وجهة نظرهم ــ فانتهى بها الأمر لأن تنفي نفسها نفيا اختياريا ، وفرحت بعزلتها في منزلها الريفي  بعيدا عن هذه الأجواء الذكورية المتعصبة ، واستراحت من صخب المدينة ، وصراعاتها  .
الشخصية الثانية التي جسدت فكرة  التمييز ضد الأنثى وتصنيفها طبقا لنوعها الاجتماعي (الجندر)  هي الطفلة "أمينة " التي بدا للكل أنها (ساقطة قيد) فلا تملك شهادة ميلاد بعد وفاة  أبيها وأمها  ، وقيام الأستاذة تماضر بتربيتها ، فتعيش الفتاة معها تؤنس وحدتها ، وتطبق  معها كل الأساليب التربوية التي حرمت منها منذ أن تركت وظيفتها كمدرسة ، وتعلمها الموسيقا ، وفنون الإتيكيت، وحرصت على محو أميتها كي تكمل دراستها ، حتى جاء العم الذي جسد  مظاهر التمييز، والعنف الأسري والمجتمعي تجاه الفتيات في الريف والنجوع والكفور، والعشوائيات .
انتزع العم ابنة أخيه من تماضر بالقوة؛ ليزوجها ، وهي (قاصر).
هكذا جسدت الكاتبة كل الأساليب الأسرية الوحشية والتمييز ضد الأنثى في النجوع والأماكن النائية ، والتي يعتبرونها حقا شرعيا وعرفيا في " أمينة " التي هربت من عمها مستغيثة ببيت تماضر وهي ممزقة الثياب .

يتشابك مع الخط الدرامي الخاص بقضية (الجندر) خطوط  أخرى محورية وثانوية،  توطيدا لخطين أساسين وهما : الأول صراع الأجيال، وهم الأجيال الثلاثة: الحكماء  الممثلون في تماضر والبروفيسور، والجيل الناضج الأوسط المتمثل في الدكتورة " ليلى " تلميذة تماضر( أم الأطفال) ، ثم جيل المستقبل  المتمثل في أطفال الرواية .

يبدأ الخط الدرامي الثاني الموازي لخط الظلم الاجتماعي المتمثل في قضية الجندرليقوم بالتوافق  بين الأجيال حينما تجمعهما الظروف في مكان روائي وواقعي واحد ، وهو منزل السيدة تماضر التي أرسلت لها تلميذتها الدكتورة "ليلى"  طفليها  وطفل جيرانها ليقضوا أسبوعا لديها ، حتى تعود من سفرها  لمهمة رسمية عاجلة ، وتبدأ العلاقة بالتوجس من كل طرف تجاه الطرف الآخر، ثم يبدأ صراع  ( الأنثروبولوجيا ) وهي الطرف الأول المتجسد في ألوان الحياة البدائية والعادات القديمة وأبطالها هم الأستاذة تماضروالطفلة أمينة ، مع (التكنولوجيا )  وهي الطرف  الثاني ، وأبطالها هم الدكتورة ليلى والأطفال الثلاثة ، ويبدأ التصالح بين الطرفين من خلال  البيانو والموسيقا التي اتفقوا جميعا في حبها ، وآثار الوطن التي يحرصون جميعا على الحفاظ عليها .
مع التكنولوجيا التي سيطرت على العالم يقوى دور الجيل الجديد المتمثل في الأطفال ، ومع الدور التربوي غير النمطي الذي تمارسه السيدة تماضر في قيادة الأطفال ، وتوجيههم ، يبدأ الأطفال في بث مفاهيم التكنولوجيا لها ، وقد تجسد ذلك في إنشائهم صفحة على الفيس بوك باسمها ؛ لتستطيع التواصل مع العالم الخارجي ، وكانت نقطة الحسم في صراع تماضر  بين تمسكها بالقديم وبين توجسها من الحديث عندما تسلل اللصوص إلى بيتها لسرقة التمثال ، واستدعى الأطفال (سرينة النجدة) من (اليوتيوب) أحد وسائل التواصل الاجتماعي ، فحين سمع اللصوص صوت سرينة النجدة فروا هاربين وصدقوا أنها صوت سرينة  الشرطة  ، هنا سلمت العجوز تماضر بأهمية التكنولوجيا وبدأت تقتنع أنها الحل في مواجهة كل أنواع التخلف المجتمعي ، فتماضر  التي رفضت أن تأخذ صورة سيلفي مع الأطفال عند  قدومهم هي نفسها التي حرصت أن تأخذ صورة سيلفي معهم عند وداعهم .

فكت الكاتبة عفاف طبالة شفرة السيدة تماضر باقتناعها بالهاتف الجيد ، وحسم الصراع لصالح التكنولوجيا  ، كما فكت شفرة أمينة بالعثور على شهادة ميلادها التي تركتها أمها في الحقيبة قبل وفاتها ، وشهادة الميلاد هنا هي المعادل الموضوعي لميلاد مجتمع جديد بأكمله ، ولانريد أن نقول إانها شهادة وفاة لمجتمع قديم ؛ لأن غصنا أخضر رطبا من هذا المجتمع ـ تمثله تماضر ــ سيمتد نحو المستقبل ، بما يمتلكه من مفاهيم تربوية مستنيرة ، ومرونة في تلقي المعارف الجديدة  ، واستعدادا للتغير للأفضل .
المنزل المعزول  ــ بكل من فيه ــ يفك شفرة مفهوم الوطن الذي نجح وفرض وجوده بتعاون الأجيال ، واستطاع التصدي لفخ اللصوص ، والهجمات الخارجية كسارقي التمثال ، والتصدي للرجعيين والجهلاء أمثال عم أمينة ،واستطاع أن ينصف الأنثى المقهورة من العنف الأسري والمجتمعي ، باللوائح والقوانين والتشريعات كما حدث مع أمينة التي نجت من زواج القاصرات بشهادة ميلادها ، وقانون حقوق الطفل . والبروتوكولات التي تهدف إلى تجفيف منابع الأمية ، والقضاء على التمييز ضد الأنثى ، وإنشاء مدارس التعليم المجتمعي للأطفال المتسربين ، والفقراء في النجوع والعشوائيات ، كتعليم مواز للتعليم الأساسي .

تبرز القيمة التربوية لرواية (فك شفرة ) من منطلق استخدام طرق تعليمية جديدة غير الحفظ والتلقين ، وتشجيع التفكير الابتكاري ، وتنمية المواهب ، وتوجيه رسالة إلى كل الآباء والأمهات بعدم الاستهانة بآراء أطفالهم ، واستخدام  أسلوب الإقناع معهم ، وليس فرض الأوامر التعسفية ، ومراعاة الفروق الفردية  في القدرات .. كل هذا فعلته السيدة تماضر مع الطفلة أمينة، وأطفال تلميذتها ( ليلى )  .

يحمد للكاتبة  أنها لم تنس في كثير من المشاهد في روايتها دورها في غرس القيم التربوية في نفوس الأطفال ، مثل قيمة التنشئة على المواطنة والحرص على الوطن ، فقد  قالت على لسان السيدة تماضر أنها رفضت البناء على  جزء كبير من الأرض الزراعية ؛ لأن تجريف الأرض وتبويرها  جريمة ، وهنا وضحت قيمة الأرض الزراعية ، والقيمة التربوية لاعتماد الإنسان على نفسه ، من خلال اعتماد تماضر في طعامها على ماتزرعه من فواكه وخضروات ، وماتربي من حيوانات وطيور فقط  ، والقيمة التربوية الآداب الاستئذان ، كما كان يفعل (البروفيسور) صديقها الذي بنى لها المنزل .
ينضم للقيم التربوية التي زينت كل صفحات الرواية قيمة التمسك بالتراث والعادات والتقاليد رغم اجتياح التكنولوجيا لعالمنا ، وقد ظهر ذلك في بعض المصطلحات و الكلمات  : (الطبلية ) و(برج الحمام)  وحواديت قبل النوم ، و(جرس المنزل اليدوي بين الأشجار ) و....
وإذا كان العالم كله يعيش أجواء التشتت وعدم الاستقرار ، والحروب والثورات ، وإذا كنا في وطننا العربي نحارب التطرف والإرهاب الأسود الذي يحاول أن يهدم ثوابتنا التاريخية والدينية والتربوية ، فمن واجب الثقافة وهي القوة الناعمة أن تحمل على عاتقها مواجهة الأفكارالمتطرفة والشاذة ، وهذا  مافعلته الكاتبة عفاف طبالة  في (فك شفرة ) حين سلطت الضوء بشكل غير مباشرعلى قضية في غاية الأهمية والخطورة وهي فتوى هؤلاء الحمقى ب (تحريم الموسيقا ) وجسدت هذا في شخصية الأستاذة تماضر التي تعشق العزف على (البيانو) وتهتم بتعليم الموسيقا   ل"أمينة "، ومن قبلها " ليلى " ثم أطفالها وتهتم بالغناء وقد ظهر هذا في استماعها لصوت أمينة وتشجيعها ، وهي السيدة الملتزمة خلقيا ودينيا .
 إن كانت منظومة التربية والتعليم تراجع مستواها عاما بعد عام وعقدا بعد عقد ، وربما يوما بعد يوم ، وأشرفت على الموت ، ولم تفك نظريات التربية وأساتذتها شفرتها  ، فإن مثل هذه الأعمال الإبداعية التربوية  لم تمت ، ولن تموت ، ولن تيأس .
..........................

*خبير تربوي وباحث في شؤون المرأة والأطفال المهمشين حاصلة على دكتوراه الفلسفة في التربية عضو اتحاد كتاب مصر

                               

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك