من يصفع إمبريالية هيغل؟

 

 

محمد علي العوض

 

"لقد استعبد الأوروبيون الزنوج وباعوهم إلى أمريكا، وإذا كان ذلك أمرًا سيئا، فإنّ مصيرهم في بلادهم ذاتها أشد سوءًا.".

هكذا يرسم مطور منهج الديالكتيك الفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831) الإطار العام للإفريقي وفق تصوره لتطور العقل البشري من لحظة ولادته الأولى وصولا إلى تمركزه في الغرب باعتباره نهاية التاريخ. وقطعا لم تكن فلسفة هيغل المنشورة في مؤلفات "أصول فلسفة الحق" أو "ظاهريات الروح" و"العقل في التاريخ" وغيرها كلها صادمة كالذي أعلاه؛ فلهيغل بوصفه مفكرا عظيما وأحد ثيمات الحداثة آراء فكرية مشرقة غيّرت مصير العالم، تمحورت جلها حول الديالكتيك وحرية العقل، بجانب آراء بارزة حول الدولة كمنجز عقلي و"كنه تطور التاريخ"، وضرورة النهوض بالدولة الألمانية ودورها في المحافظة على شروط الحرية للجماعة باعتبارها تجسيدا لقمة نظام الحق.

لكن كيف نقرأ تأكيد هيغل على البعد الشمولي الإلهي للدولة الذي يجعل غاية الدولة تبرر وسيلتها في السيطرة والنفوذ وبالتالي استبدادها؟ وفي أي سياق نفهم تأويل هيغل للمكان وجغرافيا العنف حين قسم العالم إلى: الأرض المرتفعة وتمثلها إفريقيا، والسهول الوديانية تمثلها آسيا، وأخيرًا المنطقة الساحلية المقصود بها أوربا المتاخمة للبحر؛ فبناءً على هذا التقسيم يصوّر هيغل إفريقيا على أنّها موطن السلب والنهب، حيث تعيش فيها قبائل بدائية زنجية تنقلب فجأة من حالة الوداعة المسالمة إلى التوحش المسعور وذبح كل من تصادفه في طريقها عندما تشن حربًا؛ بعكس أرض السهول الوديانية -أي آسيا- التي تتميّز بالمدنية والملكية الخاصة والزراعة، وبالتالي تظهر فيها مفردات مثل العبد والسيد؟.

تشتد درجة هذا التمايز عندما يعلي هيغل شأن المنطقة الثالثة أي الشريط الأوربي المتاخم للبحر، فالبحر -على حدّ تعبيره "فكرة اللا متناهي، ويشجع على تجاوز نطاق المحدود، ولهذا فإنّ البحر بمثلما يدعو الإنسان إلى التجارة والكسب الشريف يدعوه أيضًا إلى الغزو والفتح والنهب والقرصنة. هذا التمايز الجغرافي العرقي يحيل إلى تشبيه هيغل لمجرى التاريخ بمسار الضوء، فكما أنّ الشمس تشرق من الشرق وتغرب من الغرب فإنّ آسيا هي بداية التاريخ وأوروبا هي نهايته؛ وتفسيرا لذلك يقسم هيجل التاريخ إلى خمسة مراحل يستهلها بـ "مرحلة الطفولة" ثم "مرحلة الصبا" بعراكاتها المختلفة والتي يشير فيها إلى آسيا، تليها "مرحلة المراهقة" المتمثلة في اليونان حيث اتحاد الأخلاق مع الإرادة الذاتية أو مملكة الحرية الجميلة، وبعدها الدولة الرومانية التي تمثل مرحلة "رجولة التاريخ" لتليها "مرحلة نضج الروح وقوتها الكاملة" ويمثلها "العالم الجرماني".

هذه الآراء وغيرها كتبرير ظاهرة استعباد الزنوج في إفريقيا، وإبادة الأوربيين للهنود الحمر في القارة الأمريكية تحت مزاعم هيغل بأن حضارة أمريكا القديمة "انهارت بمجرد اقتراب الروح منها، وإنّ أمريكا أظهرت دائما وما زالت تظهر عجزًا سواء على المستوى الفيزيائي أو على المستوى الأخلاقي" وعدم استنكاره للجرائم التي اقترفها البيض في حق الهنود الحمر دفعت مفكرين وفلاسفة كبار أمثال "برتراند رسل" و"كارل بوبر" للقول بأن فلسفة هيغل السياسية تنادي صراحة بضرورة الدولة التسلطية الاستبدادية الشمولية. ففي كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" يرجع "برتراند رسل" أصول النزعة القومية عند الألمان والأيديولوجية النازية إلى الفلسفة الألمانية؛ لا سيما كتابات هيغل ونيتشه وشوبنهاور، ويرى أنّ آراء هؤلاء الفلاسفة كانت أحد العوامل المُسببة للحرب العالمية الأولى وملهمة لظهور الهتلرية؛ وأقرب مثال لذلك مفهوم "إرادة القوة" الذي استلهمه هتلر (1889-1945) من نيتشه.

وبالرغم من اتهام "رسل" بالوقوع في فخ كراهية الثقافة الألمانية، وعدم امتلاكه ما يثبت أنّ المنظرين النازيين قرأوا أفكار هؤلاء الفلاسفة، إلا أنّ التاريخ يخبرنا بتلك المساعي المحمومة التي قادها "القانونيون الهيغليون الجدد" أثناء حقبة هتلر لإقناعه بأنّ الفلسفة الهيغلية تدعم نظريته، بجانب جهود أخرى من قبل منظري الحركة النازية لزرع فكرة تقديس الدولة في رأس المواطن الألماني عبر التأصيل للأيديولوجية النازية بأنّها مولود شرعي للفلسفة السياسية الألمانية، فقد التقطوا كما يقول حسين الهنداوي من "ماكس ويبر" مثلا دعوته إلى الطاعة المطلقة للرؤساء أبطال الأمة، ومن "نيتشه" دعوته إلى إقامة دولة ديكتاتورية، ومن الرومانتيكيين الألمان حلمهم بقيام إمبراطورية جرمانية مقدسة يحكمها قضاء وقوانين مستلهمة جميعا من الخصوصية الروحية الألمانية، ومن "مولر فان" و"ستيفان جورج" القول بضرورة "حرب مقدسة" من أجل "إنقاذ الحضارة"، كما استلهموا من تقسيم هيغل للبشرية إلى أعراق تتفاوت من حيث القيمة الإنسانية والتاريخية؛ الأيديولوجية النازية التي تضع العرق الآري الجرماني أعلى قمة هرم البشرية.

هذا التقسيم كما يقول "سمير بلكفيف" كان سببا في ظهور نزعة التمركز العرقي التي قامت بترتيب مختلف فروع العائلة البشرية في نظام تصاعديّ للحضارة، يحتل فيها الأفريقيون (الزنوج) أدنى مراتب السلم، بينما يحتل الأوربيون (البيض) أعلى هذه المراتب، وقد أسندت هذه النظرية بالذات إلى الزنوج درجة من العقم الثقافي، وأدى ذلك إلى التمييز العرقي، والفصل الحاد بين التجمعات السكانية الأوربية ومثيلاتها الأفريقية". وقد أشار "هوركهايمر" إلى خطأ الإجراءات المنهجية الهيغلية في تناول حالة إفريقيا، وعجزها عن بلوغ أطراف الحقيقة؛ لأنها اختزلت الموروثات الإفريقية العريقة في نمطية ساكنة ومحتقرة ودونية. ويتوافق ذلك مع ما يراه عالم الأنثروبولوجي "شتراوس" بأنّ إفريقيا تمثل وعاء انصهرت فيه كل ثقافات العالم القديم، و"تغربلت" فيها كل التأثيرات والمكونات، فكثير من الأنظمة السياسية الكبرى في إفريقيا القديمة وإنجازاتها القانونية ونظرياتها الفلسفية كانت خفيّة على الغربيين ردحا من الزمن، كما أنّ فنون إفريقيا التشكيلية وإمكاناتها الموسيقية دلائل على ماضٍ في غاية الخصب.

بخلاف فلاسفة القرن الثامن عشر أمثال روسو وفولتير وجون لوك الذين كانوا يدعون إلى إشاعة السلام بين الأمم؛ كان هيغل مؤيدا للحرب بشدة، بل كان يعتبرها حالة ضرورية ومظهر لحيوية الشعوب حتى لا تفقد حريتها، فعلى حد قوله أنّ "الرياح التي تهب فوق مياه البحيرة تحفظها من الركود والعفن"؛ وهذه الفكرة لا تنأى بعيدًا عن مناداته بالدولة الكولونيالية التي يراها تحقق حالة من التماهي بين الخاص والعام.

ولكن تفحصنا قليلا في أحد جوانب هذه الدولة سنجد أنّها دولة غائية، فهيغل حين قال: "الجدل الداخلي للمجتمع المدني يدفعه إلى أن يتجاوز حدوده الخاصة ويبحث عن أسواق جديدة وعلى ذلك فإنّ وسائله الضرورية للبقاء توجد في البلاد الأخرى" كان مؤمنًا بضرورة توسع المجتمع المدني والرأسمالية، وتكشف هذه النظرة الهيغلية بفظاظة عن روح إمبريالية ودعوة استعمارية للبحث عن أسواق وموارد جديدة؛ وما قوله (إنّ القدر المحتوم للإمبراطوريات الآسيوية أن تخضع للأوربية، وسوف تضطر الصين في يوم من الأيام أن تستسلم لهذا المصير) إلا دليل على هذه الروح الاستعمارية.

ربما يقول البعض إن فلسفة هيجل السياسية بعيدة تماما عن هذه التأويلات أو أنّه استخدم عبارات أوحت للكثيرين بتفسيرات خاطئة، لكن هذا لا ينفي أنّ النازية كانت جنينًا شرعيا لهيغل فيلسوف الدولة البروسية.