في قاعة المحكمة


د. محمد الدفراوي | مصر


قبع في زواية من القفص القرفصاء، خائفا، مقهورا، ينظر إلي قاعة المحكمة بعينين منكسرتين، ارتمت عليهما كل ظلال الحزن العميق  في انتظار دوره في الجلسة.. لايحتفظ لأحد بود، و لايتكلم مع أحد، يريد أن يكون مع نفسه،  رافقته  زوجته  الانتظار، قال لها حانقا: منذ عشرة أيام وأنا  في السجن، زارتني كل خطاياي.
ظنت أنه يؤنبها حاولت أن تخفف عنه، لكنه قاطعها قائلا بلاحرارة وبلا جدية:
وماذا قال لك المحامي بعد أطلاعه علي ملف القضية.. بدا كمن ينتقي كلماته بعناء شديد محاولا إطلاقها من عقال..
طمأنني خيرا.. قالتها ردئية مكسورة وأكملت: قال لي لو كنت قاضيا  لبرأته.
علي أي أساس قال عني ذلك؟
لقد قال لي: إني زوجك لم يبلغ بعد مرتبة المجرم المحترف.. .
ضحك قائلا: لكني في النهاية مجرم.. هذه هي الحقيقة.
بنبرة لا تخلو من تهكم: الأماني البعيدة لا تبدد ظلام الليل،  ما أعرفه من نفسي يقول لي أنني أخرق..
زاد عواء الريح في نفسه و توتر أعصابه، أشاح بيده قال: تعلمين القضية تلبس.. وأنا اعترفت بها أمام النيابة  بأدلة الإثبات.. كل هذا أضعف فرصتي في الإفلات هذه المرة ليست كسابقتها.. صمت، و استغرقه التفكير.. في حديثه نبرة من سخرية حزينة تحس بالتشاؤم الرهيف لشخص يعرف قيمة الحرية.
شاطرته القلق دون أن تدري.. حاولت هباء أن تلملم ما تشظي منه.
ربك كبير وكريم.. لاتحمل نفسك فوق طاقتها
قاطعها مصححا: لا أحد يصنع المجرم هو من يصنع نفسه بنفسه.. مخطيء من يظن أن الحياة هي من تتسبب لنا في الألم.. نحن من نوسع أنفسنا حزنا وألما وضربا!
كاد أن يبكي من فرط حيرته.. لم يتعود السجن ولم يختبره مددا طوالا،  فمن يمكث في السجن طويلا ينحط...
 حاولت مرة ثانية مبالغة في التخفيف عنه و إخراجه من يأسه.. خليها علي الله .. أحضر لك طعاما أو سجائر من البوفيه.
 قال  ببطء وهو يسعل: لا نفس لي .. لا أريد شيئا ..  فقط أكره نفسي .. لقد كنت لنفسي معلما رديئا لتلميذ أردأ.. دعيني أتجرع المر.
بود قالت: المحامي تكلم معي قبل دخولي  وطلب مني أن أبلغك رسالة،  فأصغ ألي جيدا:
" لاسبيل للخروج من هذا المأزق الإ بإنكار التهمة جملة وتفصيلا مهما حاول القاضي استجوابك.. علي الأقل يكون الحكم مخففا "
أنصت إلى كلماتها الهرمة ولم يتفوه..
اجتاز المحامي فناء المحكمة  بكل من فيها من بشر يثرثرون، يصمتون قليلا، ثم يستأنفون الثرثرة علي رتم الجلسات.. بدوا له كببغاوات.. بروبه الأسود المترتر بشريط أخضر حريري . وهيئة غير متصالحة  وحقيبة لفائف أوراق متهالكة، لم يطمئنه منظره، زاد توتره.. حتي تركه خائرا،  مخوخا .. وجلا، مرعوشا.
حاول أن يغالب قلقه بشتي الطرق كالاستغفار، وهو لم يلب يوما نداء مسجد، فمنذ وقت طويل لم يسأل السماء شيئا.
نادي الحاجب علي اسمه كأنما وقف علي رأسه
أجابه علي الفور: أفندم.
تقدم نحو قضبان القفص، المحامي شاهرا بوقاحة  كف يده، يحاول ألا يبدو غبيا في نظر موكله: حاضر مع المتهم.
 بصوت عميق ناعم وجه القاضي له سؤاله المصنفر:
ما رأيك في التهمة الموجه إليك؟
 مرتبكا هم بالكلام لكنه توقف.. ارتعشت خطوط  التجاعيد علي صدغيه،  شيء ما ألجمه.. لم يستطع نفي التهمة، غلبه صمته..
 انتظره لحظة ثم  أمره القاضي ثانية  بالكلام.
كلمات القاضي بسيطة يحاول تحفزه علي ألا يظل صامتا، مرتبكا.
 لكنه لم يرد ..
طالع القاضي صحيفة احواله ، فهاله حجم ما فيها..
قال وهو يتبرم من غير أن ينظر إليه: فهمت فهمت.
نظر إلي محاميه: ماذا تقول يا أستاذ.
محاولا أن يبدو ذكيا، مطنطنا: موكلي لم يسرق ويقسم علي ذلك..
  من وراء القضبان  رد قاتلا الشر في نفسه: لن  أقسم علي المصحف كذبا !
جاءت كلماته بسيطة  كضوء  ما بعد الظهر يضيء عيني أتعس الكائنات..

 

تعليق عبر الفيس بوك