النُّخَب الفِكريّة.. بين مَدّ أدلجة الثقافة وجَزرْ سلطة الدولة (2-2)

 

محمد علي العوض

في كتابه "مفهوم الدولة" يُشير عبد الله العروي إلى أن أدلجة الثقافة في المجتمعات المتنوعة تعني انتفاء إمكانية وحدة الانتماء في الدولة، الأمر الذي ينتج تساؤلا دائماً عن الهويّة، وهذا السؤال يمكن أن يصبح "بعضا من وقود الحرب" ويدفع أطراف الدولة ومكوناتها المجتمعية رويدًا رويدًا نحو أتون الصراع وإشعال فتيل المواجهة مع أو ضد الدولة الإقليمية – كما هي في الحالة السودانية أو الليبية؛ لأنّ الهوية ببساطة وبحسب تعريف اليكس ميكشيلل هي عبارة عن "مركب من العناصر المرجعية المادية والاجتماعية والذاتية المصطفاة التي تسمح بتعريف خاص للفاعل الاجتماعي". وطالما أنّها مركب فمن الضرورة أن يطالها بعض التغيّر كالذي يطرأ على الإنسان في تدرجه العمري من طفولة إلى شبيبة ثم كهولة؛ لكنّه يبقى في النهاية إنسانا؛ أي أنّها متغيّر يتميز بثبات مُعين في نفس الوقت، لكن المشكلة تكمن في الاصطفاء والأدلجة من النخب أو سلطة الدولة.

وقد ينادي البعض بتوحيد الثقافة عبر نظم التعليم كعنصر أساسي من عناصر بناء الدولة أو الأمة أو الدولة القومية، لكن هذه النظم الأيديولوجية أو السلطات حين تضع مناهج التعليم تعمد إلى حشوها بما يناسب توجهاتها الفكرية وتجيير العقول والعواطف لمصلحتها وبما يخدم خطها السياسي، كما أنّها ستقصي أي دراسات وأبحاث مخالفة لأيديولوجيتها وستعمد إلى تحجيم دور الباحثين والمبدعين والفنانين المغردين خارج سربها.

أيضًا، واحدة من علامات أدلجة الثقافة وتسخيرها لصالح السلطة الحاكمة في الدولة التمييز بين الدين من ناحية والأيديولوجيا الدينية من ناحية أخرى؛ ونعني بمصطلح الدين هنا المعنى التقليدي للدين برجاله المحافظين أو المعتدلين الذين تخرجوا من دور العلم التقليدية كالخلاوي والزوايا ودور العبادة والمعاهد والجامعات الدينية، أمّا الأيديولوجية الدينية فنعني بها أعضاء الحركات والجماعات الإسلامية المتخرجة من منابع مدنيّة وتقنيّة عصرية بخلاف النموذج الأول.

فإذا كان رجال الدين التقليديون يتّخذون من الدين والسنة مراجع لهم؛ فإنّ الحركات الإسلامية تشتق من الإسلام السياسي ومُنظريه نموذجا سياسيا/ دينيا؛ تجابه به الغرب وأيديولوجياته، وهم بذلك "يثيرون بطريقة مباشرة وعلنية مشكلة الدولة". وبدلا من المحافظة على المجتمع المدني تسعى هذه الحركات إلى الصدام معه تحت ذريعة بناء المجتمع انطلاقا من الدولة، وهنا يضمحل دور الفقيه ويبرز دور المثقف سواء كان معارضا لأيديولوجية الدولة أو مساندًا فهو مرتبط بها تكوينا ووظيفة.

ونظرًا لهذا النوع من الأدلجة والتسييس طبيعي جدا أن تتضارب الظاهرة الإسلامية لا مع المفاهيم الموروثة فقط؛ بل حتى مع المفهوم الرسمي للدين ولوظائفه الاجتماعية، فالدولة لن ترضى بتكوين مجموعات ثقافية/اجتماعية/ سياسية خارج إطارها وعباءتها الفكرية؛ يمينية كانت أم يسارية، وربما تكفرها إن دعا الداعي، وستقوّض كذلك أي تعبئة للجماهير تحت شعارات ومحاور نقدية ذات طابع ديني أو حتى اجتماعي – كمبادرتي "نفير" التي ارتبطت في أذهان السودانيين بموسم الخريف والفيضان و"شارع الحوادث" المرتبطة هي الأخرى بتقديم المعونة الطبية للمحتاجين من المرضى.

تلعب النخب الفكرية دورًا حاسما في نسف أو بناء شرعية الأنظمة السياسية أيا كانت مشاربها الفكرية، وغالبا ما تدور هذه النخب في فلك السلطة أو فلك المعارضة الطامحة في السلطة، ويسعى كلا الطرفين إلى القضاء على الاختلاف وتوفير شروط الشرعية المؤدلجة وإقصاء الآخر، "ويكفي أن تستولي سلطة تسعى إلى بناء دولة مستقلة على الحكم حتى يصبح القوميون العرب أو الداعون إلى وحدة إسلامية في موقع الخارج عن القانون... والمتآمر. وبالمقابل ما إن يستولي قوميون أو إسلاميون على السلطة حتى يصبح الدعاة إلى هوية محلية انعزاليين انكماشيين، خطيرين".

التماهي والعزلة

يحدث أحيانا أن تظهر العلاقة بين المثقف والسلطة في صورة حالة من الذوبان والتماهي، وفي هذه الصورة يفقد المثقف تقديس الحق، ويتخلّى عن أفكاره لصالح السياسي؛ إمّا طمعا أو خوفا؛ فيتحول إلى بوق يسبح بحمد السلطة التي تحتاجه لتثبيت دعائمها وأيديولوجيتها، وتصبح مهمته الأوليّة تبرير ممارسات الدولة القمعية والدفاع عن سياساتها الفاشلة؛ وعندها يكون المثقف بحسب عبد الاله بلقزيز قد خان دوره وعطل حاسّته النقدية، فيسقط في التبريرية، وينتهي إلى مشايعة السلطة أو ممالاة الجمهور، طمعا في امتياز أو جاه أو مركز اجتماعي.

أمّا في حالة العزلة فيظهر المثقف بفكره وكتاباته في وادٍ، والسياسي الذي يمثل الدولة والسلطة الحاكمة في واد آخر. بعيدان كل البعد، لا يتقاطعان؛ والرابح الأول في هذه المعركة هو السياسي الذي استطاع حشر المثقف في زاوية الانكفاء على الذات والعمل الثقافي الضيّق، وبالتالي يتنصل عن أي التزام تنويري تجاه المجتمع، ومن ثم يسعى إلى تحرير الثقافة من السياسة وتأكيد انفصالها عنها، فينعكس هذا الانسحاب على سلوك المثقف وخطابه الذي يتحول إلى حالة من جلد الذات وتعذيب النفس.

أيضا من ملامح هذه الانعزالية علاقة اللامبالاة وتظهر حقيقة هذه الانعزالية عند "حليم بركات" في كتابه "غربة الكاتب العربي" عندما يعرفها بأنّها "عدم رغبة الدولة في الاهتمام بالكاتب أو قلمه، وبالتالي يصبح الكاتب هو الآخر غير مبالٍ أيضًا بتلك العلاقة" ضاربًا بالثقافة اللبنانية مثالاً على هذه اللامبالاة وهذا البرود السلطوي.

ويتطرق - حليم- لعلاقة أخرى من علاقات المثقف بالسلطة هي الاضطهاد، أو الإجحاف لمضامين هُوية الكاتب؛ من حيث كونه حُرًا يمارس شعائرَ الحرية ويتقصّى مواردها داخل المكوّنات الاجتماعية المختلفة، وهي علاقة قائمة على سجن المثقف المناوئ للدولة أو التنكيل به أو دفعه للاغتراب والنفي.

ويبقى القول إنّ منطق السياسة اليوم يقتضي التخلي عن سياسة الأيديولوجيا الواحدة التي لا تلبي طموحات التنوع ولا تعبر عن التعددية في المجتمعات، فالصراع بين المثقف والسياسي لن يتوقف بل سيحتدم أكثر فأكثر نتيجة التغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة وبروز التيارات الليبرالية الساعية لتغيير الأنظمة الشمولية وإحلالها بالأنظمة الديمقراطية؛ على الرغم من أنّ أدوار المثقفين قد تغيّرت مع تسارع نبضات الزمن، ولم يعد لديهم كبير تأثير في الرأي العام وصانعي السياسات كما في السابق؛ فقد ظهر فاعلون جدد كالتكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتَغيُّر آلية الحصول على المعلومة والمعرفة، ورجل الشارع العادي المتطلع للتغيير والمكتوي بنيران السلطة وتمييز الدولة.