ما وراء النكتة وما وراء العبارة

 

نجاة بنت صالح الكلبانية

تنتشر بعضُ العبارات بين النَّاس لتصبح بعد حين من الأمور المُسلّم بها لكثرة استخدامها وتداولها. واليوم قد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي وبدرجةٍ غير مسبوقة في نشر الكثير من العبارات التي تحوي رسائل مُبطنة- والتي غالباً ما تكون سلبية - كما أصبحت عملية تكرار هذه العبارات وبشكلٍ دوري وممنهج سهلةً جداً مما أدى إلى وصولها لأعدادٍ أكبر من الناس وتأثرهم بها نظراً لسماعهم المتواصل لها فما يلبثوا إلا وأن يعتبروها من الأمور العادية بل والطبيعية ثم تصبحُ بعد حينٍ هي النمط السائد.

فالكثيرُ منَّا سمع العديد من النكات عن أهل الصعيد  بمصر على سبيل المثال. في الماضي كانت تصلنا النكتة فنضحك عليها ثم نذكرها في جلساتنا مع الأهل أو الأصدقاء لنصنعَ لأنفسنا جواً من المرح على حساب مجموعة من النَّاس نحن لا نعرف عنهم سوى القليل ولربما القليل جداً.

واليوم ومع وجود التكنولوجيا وأصناف عدة من الوسائل التي تتيح لنا التواصل مع الآخر فقد أصبح الأمرُ أسهل بكثير من ذي قبل. فبضغطة زر تصبح النكتة مُتاحة للجميع لقراءتها والضحك بسببها ونظن خطأ أننا ننشر جواً من المرح ونحن في الواقع نتندر على أشخاص لا ذنب لهم سوى أننا نستخدم جهلنا لنصنع جواً من الضحك والأجدر أن نضحك ونبكي في آن واحد على جهلنا.

انتشرت النكات عن أهل صعيد مصر ولكن كم من الذين قرأوا هذه النكات وضحكوا عليها ثم أرسلوها لغيرهم ليضحك عليها، كم من هؤلاء قرر أن يقرأ عن صعيد مصر وأهله ليتعرف عليهم عن قرب؟ كم منِّا يعرف ما جاد به صعيد مصر من علماء وأدباء ومثقفين وسياسيين؟ ولكن على ما يبدو شغلتنا النكتة عن القيام بذلك.

تُستخدم النكات لتمرير الكثير من الرسائل السلبية عن أحزاب أو قبائل أو مناطق أو شعوب بأكملها وبتكرار تلك النكات التي نراها عادةً بريئة - مما يسهل عملية الانتشار الواسع وتقبل النَّاس لها- تتكرر معها نفس الرسالة التي لا تلبث إلا وأن تصبح حقيقة مؤكدة في أذهان الكثيرين. فقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي بنشر عبارة "ذاتُ الركبة السوداء وذي الإزار والفانيلة" التي أجدها عبارةً غريبة وما يُثير استغرابي أكثر هو مدى انتشارها ومدى تقبل الكثيرين لها بحيث أصبحت عبارةً كثيراً ما نقرأها أو نسمعها وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أشبه بحقيقةٍ غير قابلة للجدل.

لا أعرف من بدأ بنشر لقب "ذو الإزار والفانيلة". قد تكون زوجةً ضاقت ذرعاً بزوجها فأطلقت ذلك اللقبَ عليه من استيائها من دون أن تدري أنَّ اللقب سينتشر انتشار النار في الهشيم ليعبر عن الكثير من الرجال!

أما لقب ذات الركبة السوداء فلا أدري أكانت هي امرأة حانقة على أخرى فنعتتها بذلك اللقب أم أنَّه رجل لم يجد طريقة ليغيظ بها زوجته أو أخته أفضل من هذا اللقب!

المشكلة طبعاً أنَّ الكلَ أصبح الآن يُشير للنساء في الخليج بهذا اللقب الغريب ولكأنما اطلع من يستخدمه على كل ركب النساء فتأكد من سوادهن! وليس في سواد الركبة من عيبٍ يُذكر أو عارٍ يُستر فإن كانت ركبة إحداهن سوداء فهي ليست جريمة نكراء لا تغتفر. ولكن يبقى لُب الموضوع أنَّه بعبارات لربما أطلقت ببراءة في بادئ الأمر سرعان ما تحولت لتنشر رسالة ضمنية تجعل من الرجال يشمئزون من النساء في بيئاتهم ويظنون أن غيرهن من النساء أكثر جمالاً وغنجاً واهتماماً بأنفسهن وبأزواجهن!

كما وفي نفس السياق نجد أنَّ الكثيرَ من المسلسلات التركية روجت لفكرة جمال الشكل الخارجي وتلك الجرعة الكريمة من الرومانسية التي أصبحت جزءاً من الخلطة التركية التي غزت القنوات العربية لتكون لربما أحد أهم سبل الدعاية لتركيا.

وقبل المسلسلات التركية كانت هناك كذلك حملة ترويجية مماثلة للرجل اللبناني عن طريق مجموعة من المسلسلات والبرامج قدمته على أنه الأكثر رومانسية وإتقاناً للتعامل مع النساء وعلى ضوء ذلك تتم المقارنة بينه وبين الرجل الخليجي -على سبيل المثال - والتي كثيرًا ما تنتهي بتفوق الرجل اللبناني حتى وإن كان من يقوم بالمقارنة لا يعرف الشيء الكثير عن المُجتمع اللبناني أو المجتمع الخليجي. كما تصلنا بين الفينة والأخرى بعض النكات التي تظهر مدى حساسية ولطف وعناية الرجل اللبناني أو المرأة اللبنانية في انتقاء الكلمات مقارنة مع الرجل الخليجي أو المرأة الخليجية!

نعم قد تكون هناك نسبة لا بأس بها من الرقي في التعامل واللطف والبراعة في استخدام المفردات في المجتمع اللبناني نظراً لانفتاحه على المُجتمعات الأخرى ونظراً كذلك للمستوى التعليمي لأفراده ولكن هذا ليس سبباً كافياً لأن نخلصَ لتعميمٍ يجعل من "كل" الرجال اللبنانيين لطفاء "وكل" النساء اللبنانيات رقيقات.

إنَّ المستوى التعليمي والثقافي ومدى الخبرات المتراكمة  لدى شخص ما قد تعطي انطباعاً بأنه راقي التعامل ولطيف وذو ذوق رفيع نظراً لقدرته على التعبير. وعلى النقيض من ذلك قد يبدو  شخص ذو مستوى متوسط من التعليم فظاً في تعامله مع الآخر لأنّه لا يعرف كيف ينتقي كلماته ولكن هذا لا يعني مطلقاً أنه شخص عديم المشاعر، غير قادر على إظهار حبه لمن هم في دائرته الخاصة أو التعبير عن مشاعره بطريقته التي تميزه عن غيره.

إنَّ التعميمَ خطيرٌ جداً ولكن للأسف يجهل الكثيرُ منِّا خطورته وتأثيره على آرائنا وتوجهاتنا وتعاملنا مع الآخر. والوعي بالأدوات التي تذكي جذوة التعميم كالنكات مثلا هو أمرٌ غايةٌ في الأهمية. يجب أن يكون لدى كل منِّا فلاترَ عقلية تُغربل ما يصلنا في كل لحظة حتى لا نقبل ما نقرأ على أنه حقيقة في حين أنه مجرد صياغة تعبر عن فكرِ أحدهم ورغبته لربما قاصداً -أو غير ذلك- في إيصال فكرة سلبية عن شخصٍ أو جماعةٍ أو قبيلةٍ أو شعب.

 

تعليق عبر الفيس بوك