دومينو الاستبداد

 

راشد حمد الجنيبي

عندما تنفردُ بأمرٍ أو بِشَيْءٍ أو بشخصٍ، أن تنفرد به وبمصيره وتحديد عاقبة أمره وحدَك دون غيرك فأنتَ مُستَبِد، واصطلاحاً هو التعسّف والاستيلاء والانفراد بأمر من غير مشارك للمستبد فيه، وإذا استبدّ أمرٌ عليك كالقلق فهو غَلَبك، وقد قيل إن الاستبداد هو الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار، وهذا أصل عبارة "إنما العاجِزُ من لا يستبد"، لكن هذا في سياقهِ الحميد أي فقط إذا اقترن الاستبداد بالعدل.

تأصيلاً لمعناه، من نفس المفهوم مِن جهةٍ أُخرى يقول الكواكبي إن الاستبداد هو غرور المرء برأيه والأنَفَة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة وأنّهُ يُراد بِهِ عند إطلاقه استبداد الإدارات والحكومات لأنّ أضراره تؤثر على حياة الأفراد مباشرة، ومن هذا السِياق أتى التعريف الغربي لكلمة مستبد عند الغرب (despot) ، أتت من أصل الكلمة اليونانية "ديسبوتيس" ومعناها رب الأسرة وسيد البيت ومن النطاق الأُسَري خرجت إلى النطاق العام والسياسي لكي تُطلق على أنماط الحكم التي تتسم بالصلاحيات المُطلقة على الرعايا، حيث يكون الحاكم كالأب لأبنائه وينفرد فرد أو مجموعة من الأفراد بالقرار وحدهم دون غيرهم.

هناك فرق بين الاستبداد بعدل والاستبداد بدون عدل وهو الطغيان، بمعنى آخر قد يضمن الأفراد في ظِل استبداد الحاكم العادل حقوقهم لكونهِ حكيماً ومطبّقاً أصل كلمة الحاكم (الحكمة)، عادلاً وقادراً على الحكم، لكن كون أن الأفراد ارتبطَ مصيرهم بمصير صانع القرار وحياتهم مقرونةٌ بحياتِه فهنا يكون الوضع متأزّما، لأن صمَام الأمان عندهم أصبح الحاكم نفسه لا الدستور أو مواثيق وأعراف وعهود قانونية، فكل الصلاحيات التي كان يملكها ستذهب لإدارةٍ أُخرى تستبد بها، وهنا مصيرهم سيرتبط بحكمة وعدل وحنكة الإدارة الجديدة إن كانت تتحلى بها، قد ينعم الأفراد بحياةٍ كريمة عادلة تحت أيدي المستبد العادل لكنها لا تضمن عدل المستبد القادم.

أحجار الدومينو التي ما إن تُسقِط كبيرها حتى يتساقط طابور الأحجار، حجرة تلوَ الحجرة وكلٌّ تتبعُ أختها، تسلسل هذي الحجارة يمكن أن يطبق على مفهوم الواقع، وهو تسلسل الأحداث والنتائج، بشكل من الأشكال قد يستبد حاكِمٌ بوزارئه حتى لو بضجرٍ واختلاف، فيستبد الوزراء بالوكلا، والوكلاء بالمديرين، والمديرون بالموظفين، وهكذا إلى الأصغر، فيرجع الموظف للبيت فيستبد بالزوجة وهي تستبد بأولادها والأولاد بالخدم وطلبة الفصل، فيصبح المجتمع متظالما يظلم بعضهُ بعضا- ولكل فعل رد فعل.

ومن آخر نتائج تساقط هذه الأحجار هو أن يستباح الكذب والتحايل والنفاق خوفاً من ُالمستبد، ويليه التذلّل والركوع الشؤم ونبذ الجد في العمل، وعلى المدى البعيد تصبح هذه الأمور مقبولة ويعمد الناس إلى تربية أبنائهم على هذه الخِصال المقيتة، ضف إلى ذلك إذا عمد الأبوان أيضاً إلى فرض هوية ومبادئ معينة على أبنائهما وتفردا باتخاذ قرارات أبنائهما عنهم، سيخلق ذلك للأبناء مستقبلا مكلوما ومزعزعا حتى في أبسط تفاصيل هوّايتهم، سيصلون لمرحلة لا يبحثون فيها عن حقيقة بل عن هويّة، هناك فرق بين البحث عن هوية والبحث عن حقيقة، مثل المراهق الذي يعتنق أي مبدأ أو دين أو فكر أو آيديلوجيا بحثاً عن هوية لا حقيقة، نقصاً منه واستناداً لخلفيته غير الصحية التي أتى منها.

من الرائع بل من شهوة النفس أن تكون صاحب قرار، لكن من الأروع أن تستكين وأن تتوشح بالحكمة، قبل أن تتخذ أي قرار حاسم تذكر أن من الحكمة أن تستشير، ودع عندك الكم الوافي من العِبَر والحكم التي تستنبطها من تجاربك لتعرف كيف ومتى ومن تستشير، وتذكر أن تعنتك واستبدادك في أي شيء ينفر الناس منك ويعكس الموازين عليك، وإذا ابتليت ثِق أن الخلاص من أي مأزق شاق لا يكون بالمقاومة وبالشدة إنما يكون بالحكمة والتدريج، لا تستبد لا تظلم لا تفجُر فالكون والتاريخ والتجارب تقول بأن الدائرة ستدور عليك.

Rashidhj1139@hotmail.com