الخطاب الاقتصادي الجديد

حاتم الطائي

السلطنة تولي اهتمامًا متناميًا بالابتكار باعتباره حجر أساس اقتصاد المعرفة

التنويع الاقتصادي إحدى ثمار اقتصاد المعرفة والإنفاق على البحث العلمي والتطوير

منذ مطلع الألفية الثالثة أخذ مصطلح "اقتصاد المعرفة" في الانتشار ضمن خطاب اقتصادي جديد تجلى في الأبحاث الاقتصادية على تباينها، ليشير بوضوح إلى توظيف المعرفة في العملية الإنتاجية ومن أجل تحقيق أعلى قدر ممكن من المنافع الاقتصادية، وليس- كما كان قبل ذلك المصطلح- توظيف عوامل الإنتاج الثلاثة الشهيرة (الأرض والعمالة ورأس المال) لتحقيق فوائد اقتصادية، في صورة مشاريع أو منتجات، وهو ما يعرف بـ"الاقتصاد القديم".

اقتصاد المعرفة الذي نتحدث عنه يواكب متغيرات العصر، فيستفيد أيّما استفادة من الفكر الابتكاري، وتقنية المعلومات، والبيانات المفتوحة، علاوة على الذكاء الحاسوبي والذي تطور تطورا هائلا ليصير الآن "الذكاء الاصطناعي".. ومثل هذا التطور النوعي والسريع أفرز مصطلحات أكثر تقدمًا مثل الاقتصاد الرقمي وإنترنت الأشياء والابتكار والحوسبة السحابية والبيانات الضخمة، وكل ذلك يندرج تحت مظلة الثورة الصناعية الرابعة. وجميع ما يحتويه هذا المفهوم الواسع الشامل "اقتصاد المعرفة" قابل للتطور واستيعاب أفكار جديدة ومصطلحات لم تكن لها من قبل سَميًا، وهو آخذ في التبلور على نحو متسارع، بفضل الاختراقات العلمية التي يكتشفها ويبتكرها المختصون في جميع المجالات.

السلطنة، وبفضل توجهات الحكومة الرشيدة تحت القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- أخذت بزمام المبادرة، وبدأت قبل سنوات في تبني تطبيقات اقتصاد المعرفة، والسعي نحو نشر هذا المفهوم بين الأوساط العلمية والأكاديمية من جهة، وفي مجتمع الإنتاج والصناعة من جهة أخرى.. فوجدنا تخصصات تقنية متقدمة يتم تدريسها في جامعاتنا وكلياتنا المنتشرة في ربوع البلاد، وأُنشئت مؤسسات حكومية معنية في المقام الأول بتطوير آليات الاستفادة من تطبيقات اقتصاد المعرفة، فظهرت واحة المعرفة مسقط، ذلك الكيان العلمي المؤسسي الذي يمثل حاضنة علمية وتقنية رفيعة المستوى، توفر البيئة الخصبة للمشاريع التقنية القائمة على مفاهيم الثورة الصناعية الرابعة.

مؤسسات الدولة لم تقف عند حد إنشاء الكيانات الداعمة والمطورة للتقنيات الحديثة؛ بل توسّعت في مجال البحث العلمي والتقني وتنظيم الندوات والمؤتمرات المتخصصة، من أجل طرح توصيات ورؤى تضمن التطبيق الأمثل لمخرجات هذه المنظومة الاقتصادية المعرفية.

وخلال الأسبوع الماضي، أبرزت ندوة وطنية الدور المهم للبيانات المفتوحة والإحصاءات المعلنة، في صناعة القرار وإعادة هيكلة القطاعات، وهو ما يبرهن أيضا على التزام السلطنة بمبدأ الشفافية في طرح الأرقام التي تعتمد عليها المنظمات الدولية المتخصصة في عمليات التصنيف بشتى أشكالها. وفي ظل اقتصاد المعرفة - الذي نتحدث عنه- يؤكد الخبراء تعاظم القيمة الاقتصادية للبيانات المفتوحة، والتي تمثل- في أحد أوجهها- أساسا متينا من أساسات الاقتصاد المعرفي، وما يُدلل على هذا الترابط الوثيق بين البيانات والنمو الاقتصادي، أنّ نحو 5 تريليونات دولار هي القيمة الاقتصادية المقدرة للبيانات المفتوحة.. ولنتخيل سويًا نصيب السلطنة من ذلك الرقم إذا واصلت مسارها المنضبط في هذا الإطار، وعززت من جهود دعم الاقتصاد الرقمي القائم على البيانات، وانعكاسات ذلك على ترتيب السلطنة في منظومة المؤشرات الدولية.

إننا عندما نربط بين اقتصاد المعرفة وإتاحة البيانات والابتكار، نشير بقوة إلى ذلك الثالوث التقدمي، الذي إذا ما التزمنا به لاقتربنا أكثر وأكثر إلى مواكبة حقيقية للمسار العالمي، من أجل تحقيق جملة من الأهداف؛ في مقدمتها دعم وتطوير الأعمال ومساعدة الجهات المعنية في اتخاذ المناسب من القرارات التي تصب في صالح المواطن أولًا وأخيرًا. فمثلًا إتاحة إحصائية عن عدد الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة في ولاية أو محافظة ما سيفتح المجال أمام الشركات المبتكِرة للمعدات والتقنيات التي تساعد هؤلاء الطلاب على توظيف إمكانياتهم، وإنتاج العدد المتوقع بناءً على مبدأ العرض والطلب المدعوم بتلك البيانات المفتوحة. وهنا تكون قد تحققت المعادلة؛ توظيف البيانات المفتوحة في عملية الابتكار والتصنيع والإنتاج وفق أسس ومعطيات اقتصاد المعرفة.

وفي جانب آخر من الفوائد المتحققة من هذا الأمر؛ تحقيق مبدأ الشفافية، والذي يحقق منافع عديدة، تبدأ من توفير الخدمات بأعلى قدر من الجودة، وصولا إلى كسب ثقة المواطن، عندما يرى في حديث الأرقام برهانا على حجم التنمية الشاملة المتحققة في مختلف المجالات وفي كل بقعة على تراب هذا الوطن الغالي.

وفي ظل التنافسية حامية الوطيس بين الاقتصادات لاستقطاب رؤوس الأموال وضخ استثمارات في جميع قطاعات الإنتاج- ضمن الإطار العام للاقتصادات القائمة على منتجات الثورة الصناعية الرابعة- تسعى السلطنة حثيثا لتوطين التقنيات الحديثة، وإبرام الاتفاقيات ومذكرات التعاون مع مختلف المؤسسات الدولية من أجل الاستفادة من هذه المنتجات العصرية، والتي يمثل الابتكار والإبداع العمود الفقري لها. وقد اجتمعت مجموعة من الخبراء والمختصين- الأسبوع الماضي أيضا- في أعمال الحلقة الوطنية حول "مؤشرات العلوم والثقافة والابتكار والإنفاق على البحث والتطوير"، من أجل صياغة رؤية مستقبلية شاملة لاقتصاد المعرفة في بلادنا، فكانت النتيجة الكشف عن خارطة طريق مرتقبة تضع الأسس وخطط العمل اللازمة للارتقاء بترتيب السلطنة في مؤشرات العلوم والابتكار على المستوى العالمي.

ومن أبرز العائدات المتحققة من اقتصاد المعرفة القائم على الابتكار والتطوير؛ تنفيذ مشروعات التنويع الاقتصادي، لاسيما وأنّ قطاع البحث العلمي والابتكار يندرج ضمن القطاعات التي يعول عليها في أن تسهم إسهامًا حقيقيا في مزيد من المشاريع القادرة على خلق فرص عمل للشباب وزيادة الإنتاجية وتقليص حجم الإنفاق وزيادة العائدات، منها على سبيل المثال ما تمّ الكشف عنه من قبل صندوق عمان للتكنولوجيا للتمويل والاستثمار في مجموعة من الابتكارات؛ منها الابتكار الواعد المتمثل في إنتاج طائرة بدون طيار ستدعم تطور ونمو مشروع المليون نخلة، بما يخدم زيادة إنتاجية النخيل والقضاء على الآفات الزراعية بطرق تقنية لا نبالغ أنها تمثل أحد أوجه الثورة الصناعية الرابعة، متمثلة في الذكاء الاصطناعي.

نخلص من ذلك كله إلى أنّ الجهود المبذولة التي تقوم بها مختلف مؤسسات الدولة، تصب في إطار تأسيس اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار، والذي يضمن بالتالي تحقيق التنويع الاقتصادي المأمول، وحث شبابنا المبتكر على المبادرة وتوظيف طاقاته الإبداعية لخدمة المجتمع والإنسانية على السواء.