النُّخَب الفِكريّة.. بين مَدّ أدلجة الثقافة وجَزرْ سلطة الدولة (2-1)

 

محمد علي العوض

متى كانت الثقافة جزءًا من مؤسسات الدولة ومفاصلها؟ ومتى كان المشتغلون بالثقافة موظفين لدى الدولة؟

سؤال طرحه الكاتب ياسر شعبان يُذكِّر بأبيات الشيخ فرح ود تكتوك؛ الصوفي الذي عاش في حقبة الدولة السناريّة بالسودان:

يا واقفا بأبواب السلاطين

أرفق بنفسك من هم وتحزين...

إن كنت تطلب عزاً لا فناء له

فلا تقف عند أبواب السلاطين

فالثقافة بوصفها فعلاً مناوئاً لكل ما هو خاطئ أو غير حقيقي لا تقيم وزنًا لأي سلطة بخلاف سلطة العقل والمعرفة؛ لذا تظل تلخيصًا لتجربة المجتمع ووعيه بذاته وبمحيطه، ونافذة يطل من خلالها الباحث والمفكر على كل نواحي الحياة العلمية والسياسية والاقتصادية والروحية للمجتمع.

وأعني بمصطلح السلطة هنا الدولة بغض النظر عن الالتباس المزمن بين المصطلحين؛ وما إذا كانا مترادفين أم لا. ولو اقتصرنا في هذا السياق على علاقة المثقف بالدولة باعتبارها سلطة فقط فإنّ الوضع الطبيعي للثقافة وللمشتغلين بها هو الوجود على يسار السلطة - أيّا كانت السلطة - حتى وإن كانت هذه السلطة منتخبة وفي ظل نظام ديمقراطي يضمن تداولها بين جميع الأطياف المجتمعية والأجسام السياسية.

ويتفق هذا الرأي ما مع "جاك دريدا" الذي يرى أنَّ هناك توترًا تاريخيا بين المثقف والسلطة، يختلف من بيئة لأخرى؛ فالدولة وما تمثلها من سلطة للثقافة والمشتغلين بها دائما ما تنظر للمثقف بعين القلق والريبة، نظرًا للبون الشاسع بين الطرفين من حيث المنطلق والأهداف، فالثقافة فعل يحتفي بالتفكير المتجدد والفردانية، ويسعى لتحرير العقل في مشوار التنوير؛ وأداتها في ذلك المثقف الذي يخاطب المجتمع ويحثّه على التغيير بعد كشفه أخطاء الدولة أو تعسفها. بينما الأخيرة بوصفها كيانًا عضويا داخل المجتمع تحتفي بكل ما يحافظ عليها من طاعة جماهيرية عمياء أو تبعية، وكل ما يمكنها من قيادة الوعي وتوجيهه، ولن تقبل بأي خطاب ثقافي مقارع يضعضع قوتها أو يشكك في مصداقيتها. وهي – أي الدولة - تجابه المثقف لأنّه ضمير الأمة وصوتها، واحد مشاعل التنوير من خلال ما ينتجه من أعمال إبداعية وفكرية، ويؤدي دورًا مميزًا وأساسيا في زيادة وتيرة الصراع الاجتماعي، من خلال إثارة الأسئلة الملحة على صعيد الواقع وكشف عيوب السلطة وإظهار مواطن إخفاقها؛ وهو صاحب سلطة فكرية وأخلاقية ومجتمعية تضعه دائما في مواجهة دائمة مع صاحب السلطة السياسية والفراغ الناجم عن عجزه.

ويذكرني ذلك بما أورده د. حيدر إبراهيم مدير مركز الدرسات السودانية في معرض إجابته على سؤال الزميل ماجد القوني – صحيفة الجريدة- حول متى يتم التقارب بين المثقف والسلطة السياسية؟ بأنّ في السؤال كثير من التجاوزات؛ لأنه يستحيل إطلاق صفة مثقف على شخص يقف مع هذا النظام – يعني نظام الخرطوم-، مهما كانت قدراته على الكتابة والتأليف أو الفصاحة.. لأن المثقف هو موقف منحاز للإنسان والإنسانية، ومن هنا يستحيل أن يقبل شخص التعذيب والاعتقال التعسفي والتشريد والغاء الحريات ثم نطلق عليه صفة مثقف لأن لغته جميلة مثلا.. قل عنه كاتب جيد، أو شاعر مجيد، أو ناظم، أو سارد أو محلل، ولكن ليس بأي حال من الأحوال مثقف..

ويضيف أنّ المثقف الحقيقي لا يحتاج للارتباط بأي سلطة مهما كانت: سياسية أو دينية أو غيرها، لأنّه في حد ذاته سلطة معنوية أقوى من كل هذه السلط، ولو كان ملتزما وصادقا. فالحكام يجب أن يذهبوا للمثقف وليس العكس. فالمثقف -كما عرفه سارتر- هو الضمير الشقي لشعبه. فالمثقف يجب أن يكون أمام أي سلطة لتهتدي بأفكاره، وليس خلفها يبرر لها ما تفعل.

وبهذا المفهوم كما يقول حسن العاصي فإنّ المثقف هو فاعل سياسي بامتياز إن كانت السياسة هي طريقة إدارة شؤون البلاد والعباد؛ ففي فرنسا مثلا بعد انتخاب ماكرون أخذ المثقف على عاتقه ملء الفراغ الذي خلفه عجز الأحزاب وضبابية مرجعيّاتها الإيديولوجية، وأصبح صوت المعارضة الأول فيها؛ إن لم يكن الوحيد.

وعلى الرغم من أنّ السياسة هي إحدى أنماط الثقافة إلا أن المثقف على مضى العقود الماضية عانى كثيرًا من سطوة رجل السياسة على الشؤون الثقافية، حتى أصبحت السلطة السياسية هي المحدد الرئيس للتوجهات الثقافية؛ فكثيرًا ما سعى السياسي إلى محاولة تبويب الثقافة أيديولوجيًا لتتلاءم مع مقاسه ومقاس برنامجه والسيطرة على المثقف وتجييره لحساب توجهاته الفكرية؛ كما حدث في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية مثلا.

ولهذا تجد أنّ الفاشيين وأصحاب العقائد العسكرية هم أشد الناس عداوة للثقافة والمشتغلين بها، وهما وجهان لعملة واحدة، فلا وجود لفاشية عقائدية دون عسكر يبطشون، ولا وجود لفاشية عسكرية دون رجال دين وفكر يبررون ويُسوِّفُون ويُسوِّغُون. وأينما وجدت الفاشية العقائدية/ العسكرية في الحكم تظهر محاكم التفتيش وتنصب المقاصل، ويبدأ سجن الكتاب والمفكرين والمبدعين وقتلهم وحرق أعمالهم... كما فعلت محاكم التفتيش في أوروبا، وتيارات اليمين الإسلامي المتشدد في الأندلس، والملالي في أفغانستان، وفعلتها الرأسمالية في أمريكا بإصدار قانون مكافحة الشيوعية في عام 1954؛ فبموجب ذلك تمّ سجن عشرات من المشتغلين بالثقافة والإبداع مثل شابلن وآرثر ميللر وبريخت، وكذلك الحال في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، حيث تم اعتقال والتنكيل بالعشرات من الكتاب والمفكرين بسبب مناهضتهم للفكر الشيوعي الشمولي المستبد.

ولأنّ الثقافة تحدد درجة الإحساس وتنوعه وتنظم المواقف وتحدد طرق الالتزام الفردي وأساليبه فإنّها عامل مهم جدا في اللعبة السياسية، فهي التي تضبط المبادلات وتحدد المشاركة والاتصال وكذلك واجبات من يمثلون الدولة. إذ تنتفي التخوم الفاصلة بين الثقافة والسياسة؛ لأنّ الثقافة في أحد وجوهها المتعددة هي مذهب لموقف سياسي أو أدبي ما محدد الاتجاه والفكر.

يعد مجال الثقافة بعدًا أساسيا في معركة بناء الدولة وركيزة رئيسة في مفهوم اكتساب الشرعية، وبالتالي تصبح المسألة أكبر من أن تختزل في نسق العادات والتقاليد كمكونات ثقافية، ففي الدولة الجديدة أي السلطة الجديدة – على سبيل المثال- تتغير مفاهيم قيمية عدة كمفهوم العدل والهوية والجماعة والأمة بحسب ايديولوجيات هذه السلطة، فمثلا في ظل الحكومات الإسلامية تصبح الأمة أو الهوية الدينية إسلاميةً، وتصبح أمة عربية عند القوميين العرب أو أمة أفريقية عند دعاة الإفريقانية، وهذا ما يطلق عليه "كليفورد غيرتز" بالتفكك المفاهيمي. ويعني باختصار استبدال الثقافة القديمة بأيديولوجيا تواكب السلطة الجديدة، وترسّخ سلطانها أكثر وتحقنها بمصل البقاء لأطول فترة ممكنة، بل تحمي معاييرها الجديدة بكل ما أوتيت من قوة.