د. صالح الفهدي
لقد خلق الاستلاب في مجتمعاتنا حالة نفسيَّة غير مستقرَّة نفسياً، وغير صحيَّة ذهنياً، لأنه بلغَ بها درجة الهشاشة، والضعف، بسبب سَلْبِهِ لقدرة التفكير الناقد، والذهنية الباحثةِ عن الحقيقة، وحتى لا يظنَّ بأننا نحصرُ الاستلاب في قضيَّة التعاطي مع المرأة، فإننا نقول بأنَّ أنماط الاستلاب عامَّة ومصادرها متعدِّدةٍ، وتظهرُ في طرقٍ مختلفةٍ في أنماطِ تفكيرنا، لغتنا، هيئاتنا، ميولاتنا، توجهاتنا، وفي قيمنا، ذلك لأنَّ أساس البناءِ الإنساني هشَّ، لأنه لم يُبْنَ على ممارسة النقد، وتقبله، والتسامح مع الرأي الآخر، وقبول الحقيقة، والتدبُّر، ومراجعة القناعات، بل بُني على التلقِّي، والتحفيظ، والنقل، والترديد..!
حتى بعض الذين وصلوا من العلم درجاتٍ تجدُ فيهم أثر الاستلاب حين يحمى وطيس النقاش والحوار، فيظهرون شراسةً دفينة، وقبحاً مدارياً لم يكن يبين وذلك حين يستبسلون في دفاعاتهم عن حججهم وأدلَّتهم، فيمارسون قمع الآخر ليس بالحجة وإنَّما بالصريخ المدوِّي..!
في أحد الدروس التعليمية يدرَّسُ طلاُّبُ مرحلةٍ من المراحل مشروعاً قُدِّمَ لهم على أنَّه مشروعٌ وطني، وأنَّه أحد الإنجازات الوطنيَّة المشرِّفة، لكنَّ الطلاَّب يُدركون أنَّ المشروع يملكهُ أفرادٌ، وأنَّه متوقِّفٌ منذ سنواتٍ، وحينَ يتحدَّثون مع معلميهم بهذه الحقيقية الواقعية يردُّون عليهم بأنَّ أيَّ سؤالٍ حول المشروع يجبُ أن يُقتبسَ نصَّاً دون تحريف كما وردَ في المقرر الدراسي..!! هذه حالة استلاب تمارسُ على العقلِ الإنساني الذي يرى الماءَ فيصدِّق حقيقته، لكنه يقول هذا رملٌ لأنَّه لا يستطيع أن يقول عنه أنَّه ماء.. حتى يصدِّق العقل اللاشعوري ذلك فيصبحُ الماء رملاً بعد ذلك في المعتقد الذهني..!
ولا يمكن توقَّع فعالية الإنسان المستلب لأنَّه مجرَّد كائنٍ تابعٍ لرجل دينٍ، أو لرجلِ سياسة..! فقد رأينا في بعض المُجتمعات التي تعمَّق فيها الاستلاب كيف يحوِّل الاستلاب الديني البشر إلى كائنات خاضعة لزعيمٍ ديني يؤلِّبهم على الحكومات، أو يصدرُ الفتاوى بحسبِ ما يشاء..! ورأينا كيف اشتغلت بعض الحركات الدينية على الاستلاب الديني فترةً طويلةً من الزَّمن بغرضِ قلبه فيما بعد إلى استلابٍ سياسي لتمسك تلك الحركات -عبر المستلبين دينياً وسياسياً- بتلابيب الحكم، وتتربَّعْ على كراسي السُّلطة، ثم يرتدُّون على أتباعهم نكوصاً..! ورأينا تمجيد المستلبين للطغاةِ والجبابرةِ لأنهم يرون فيهم أمثلةً عظيمةً في البطولاتِ والأمجاد والمفاخر..!
إنَّ أهم ما يُمكننا عمله إزاءَ التَّحرر من الاستلاب الفكري هو زيادة جرعات الوعي الإنساني ولن يتحقق ذلك إلا باحترامِ القدرات العقلية للإنسان، وصيانة حقَّه المشروع في تقريرِ مصيره، دون تدخِّلٍ من أحد..
فيما يرى بعض المُفكرين، أنَّ الاستلاب عبارة عن (وقوع الكائن العاقل، الذي يمتلك حيزاً من التفكير العادي، والمتفاعل مع محيطه بالضرورة، في موقع الأسر الكلّي، وشبه المطلق، لفكرة ما، أو لمقدرة أكثر تأثيراً من مثيلاتها، بحيث تكون اللولب الجوهري الذي تدور في فلكه كلّ المسمّيات الأخرى، وبحيث تكون هذه المقدرة بمثابة الرأس الموجه، والذي يطلق العنان لأنفاسه التي تتلقفها ذوات أخرى ليست بنفس السوّية الفكرية، ولكنها بالضرورة متأثرة بما تتلقفه من المحيط الذي وقعت في أسره من كل الجوانب"[1]
إنَّ العقل الذي يُكبحُ هو ذاته حريَّتهُ في التفكير، ويقمع قدراته في التمعُّن، هو عقلٌ يمارسُ الاستلاب على نفسهِ قبل أن يمارسهُ الآخرون عليه، كما أنَّ المجتمع الذي يُقصي كل نقاشٍ حول سلوكات، أو أذواق، أو توجهات يؤدي تغييرها إلى دفع المُجتمع نحو حالةٍ أفضل من الرقي هو مجتمعٌ هشُّ الأساس، مهزوز القناعات.
الحلُّ دائماً يكمنُ في احترامِ العقل الإنساني الذي مكَّنه الله سبحانه وتعالى من أمانةٍ عظيمةٍ، ومهمَّةٍ جسيمةٍ لعلمه الأزليِّ سبحانه بقدرة العقل على التفكيرِ والتقرير والتغيير، ولا يجوزُ "مصادرةُ الفكرِ، يقول جلالة السلطان قابوس حفظه الله مقولة عميقةً ضد الاستلاب الفكري:"إن مصادرة الفكر والتدبر والاجتهاد من أكبر الكبائر"، ولقد صدق جلالته فالعقل إن تمت مصادرته – أي اختطافه- يتم استلابه فيفقدُ قيمته، ويصبحُ أداةً في يد القائمين بفعل الاستلاب يفعلون به ما يشاؤون، وتلك والله من أكبر الكبائر.
[1] - عماد يوسف، "مفهوم الاستلاب العقلي، الفكري والثقافي رؤيا في نهج الاستلاب"