السياحة والتحول الرقمي

 

د. هبة عبد العزيز

** رئيسة قسم اللوجستيات والسياحة وإدارة الخدمات

بالجامعة الألمانية للتكنولوجيا في عمان

 

احتفلنا مؤخراً باليوم العالمي للسياحة تحت شعار السياحة والتحول الرقمي، القطاعان اللذين يجمعهما تشابه كبير، فكل منهما في حد ذاته أداة تواصل فعَّالة ومتاحة للجميع. وأداة تتيح فرصة التعرف على الآخر والتواصل معه طواعية. بلايين الأشخاص يرتحلون سنوياً على الطرق الفعلية والطرق الرقمية ليكتشفوا ويتواصلوا مع ثقافات العالم، يرتحلون مدفوعين بشغف المعرفة في إطار مسالم بعيدًا عن التحيز. إننا ندين لهذين القطاعين بالكثير ليس فقط اقتصاديًا بل أيضاً ثقافياً واجتماعيًا وبيئيًا، فمن خلالهما تواصلت الثقافات وتقاربت المسافات وتلاشت الحواجز.

فقد شهد عام 2016 نموًا كبيرًا في حركة السياحة فوصل عدد السياح إلى بليون و235 مليون سائح مسجلا نموا وصل إلى حوالي 4% إذا ما قُورن بعام 2015، ووصل حجم الإيرادات السياحية حوالي 1220 بيليون دولار أمريكي ممثلا بذلك ما يزيد عن 7% من حجم الصادرات العالمية و10% من حجم الناتج المحلي الإجمالي عالميًا، وموفرا ما يقرب من 10% من الوظائف في العالم – واحد من كل 10 أشخاص يعمل حاليًا في قطاع السياحة.  

جانب كبير من هؤلاء يعتمد اعتمادا كبيرا في تجربتهم السياحية على التكنولوجيا وذلك خلال المراحل المختلفة للرحلة السياحية من مرحلة التعرف على المقصد السياحي إلى مرحلة حجز تذاكر السفر وأماكن الإقامة واختيار التجارب السياحية المختلفة سواء كان هذا للسياحة الثقافية مثل زيارات المتاحف والمواقع الأثرية وللسياحة الترفيهية مثل مدن الألعاب التي أضحت الآن تعتمد بشكل كبير على تكنولوجيا الواقع الافتراضي

 virtual reality – والتكنولوجيا التي تستخدم حاليًا في مجال تفسير المواقع الأثرية جعلت هذه التجربة تجربة ثقافية تعليمية ممتعة وسياحة المؤتمرات التي أصبح بإمكانها الآن جمع عدد أكبر من المشاركين والمتحدثين والتواصل معهم. ولذا فإنَّ كافة جوانب منظومة القطاع السياحي من التسويق للمبيعات لتطوير المنتج السياحي أضحت الآن مربوطة ربطًا مباشرا بالتكنولوجيا.  

ليس هذا فحسب فإنَّ التكنولوجيا الآن قلبت مفاهيم جودة المنتج السياحي رأسًا على عقب، فلم تعد المؤسسة الحكومية أو المؤسسة الرقابية هي الجهة المخولة بمنح ختم الجودة على المنتج السياحي – بل إنّ آراء جمهور السياح ممن اشتروا هذا المنتج سواء كان غرفة فندقية أو زيارة متحفية أو وجبة في مطعم أو زيارة لمدينة ألعاب ترفيهية هم من يقررون إذا ما كان هذا المنتج ذا جودة أم لا، وذلك من خلال آراء مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي مثل Trip Advisor على سبيل المثال. وضعت التكنولوجيا السائح في قلب عملية شراء التجربة السياحية فأصبح قادرا على أن يطلع على خيارات أكثر وأن يتأكد، دون تدخل من منتج التجربة السياحية، في جودتها. وعلى الجانب الآخر توفر لمنتج هذه الخدمة السياحية حجم أكبر من المعلومات حول عملائه من ثم أصبح أكثر قدرة على إرضائهم والتعامل معهم كأفراد لكل منهم احتياجات ورغبات خاصة وليس كمجرد مجموعة من المستهلكين.

إذا ما توقفنا عند قطاع قد يبدو أبعد ما يكون عن التكنولوجيا - كالتراث على سبيل المثال. نجد أن للتكنولوجيا منه نصيب أيضا. جاء حريق متحف ريو دي جانيرو الوطني كفاجعة على المجتمع الدولي. كان ممكناً للتكنولوجيا أن تخفف من وطأة  الصدمة إذا ما تمَّ توظيفها بطريقة صحيحة. تقنية المسح الضوئي ثلاثي الأبعاد أو الطباعة ثلاثية الأبعاد يُمكنها - أن توثق محتويات المتحف فيبقى منه ذكرى للأجيال القادمة؛ وليس فقط متحف ريو بل آثار حلب والموصل وليبيا واليمن. توظيف التكنولوجيا في مجال حفظ التراث يعتبر  أولوية الآن في ظل حالة التوتر والعنف السائد.  خاصة وأن مثل هذا التوثيق يسمح بالحد من عمليات تهريب الآثار؛ كما أن تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد تسمح للدارسين والمتخصين من أن يفحصوا المقتنيات ويتأملوها عن قرب. وهذا الأمر ليس حكرا على المختصين بل أيضًا يمكن لرواد المتاحف أن يلمسوا تلك القطع الأثرية وأن يكسروا حاجز الرهبة بين معروضات المتاحف سجينة الخزانات الزجاجية وروادها.

إن التكنولوجيا عادة ما يُنظر إليها كسلاح ذي حدين فقد كان لها في بعض الأحيان تأثير سلبي على بعض الوظائف، ففي قطاع السياحة أدت التكنولوجيا في بعض الدول إلى الحد من تجار التجزئة (شركات السياحة الصغرى التي كانت فقط تبيع تذاكر السفر والغرف الفندقية نظير عمولة من مُنتجي هذه الخدمات). ففضلت شركات الطيران والفنادق أن يكون لها علاقة مباشرة مع عملائها وأن تخفض لهم في أسعار الخدمات بدلاً من أن تخفض لوسيط. إلا أنَّه في نفس الوقت أتاحت التكنولوجيا لعدد أكبر من الشباب أن يكون له دور وأن يروج لمنتجه مهما كان بسيطاً مباشرة مستخدماً وسائل التواصل المُختلفة – ولعل ظاهرة مثل Air BNB تلعب الآن دورا حيوياً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمجتمعات لم نكن لنعرف عنها أي شيء لولا وسائل التواصل الاجتماعي.

إنَّ التكنولوجيا أيضًا ارتبطت بصورة وثيقة بالبيئة الطبيعية وساهمت في الحد من المخلفات – فالتحول الرقمي في مجال الترويج والإعلان على سبيل المثال قد نتج عنه انخفاض كبير في استخدام الطرق التقليدية كالورق والكتيبات السياحية. ويساهم هذا بشكل مباشر وغير مباشر في تقليل انبعاث ثاني أكسيد الكربون من ناحية - ومن ناحية اقتصادية تقليل تكلفة الترويج السياحي للحكومات والشركات. ومن ثم نحن ندين للتكنولوجيا في أنها أعطت جدوى اقتصادية لمبادرات الحفاظ على البيئة - والمفروض أيضا أن تؤدي تباعاً إلى خفض أسعار بيع المنتجات السياحية.

لن نستطيع أبدا أن نقصي العنصر البشري - فقد توجد المعلومات والتكنولوجيا ولكن قيمتها تتأتى فقط من توظيف الإنسان لها لما فيه رخائه.

هذا ويظل القطاع السياحي - قطاع الإنسان-  يرتبط بالتجربة السياحية الفريدة التي يمر بها الإنسان من خلال تواصله مع الآخر.

تعليق عبر الفيس بوك