في الذكرى الـ 48 لرحيل رجل "ملأ الدنيا وشغل الناس".. ولايزال

"يعيش جمال حتى في موته"

...
...
...
...
...
...

 

 

  • الفاجومي أبلغ من وصف تجربة ناصر: "عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت"
  • عبد الناصر ابن زمنه.. لا ينكر إنجازاته إلا "متعصب" ولا يتغافل عن أخطائه إلا "مفتون"
  • "لسان عبد الناصر" الوثيقة الوحيدة الناجية من تدليس خصومه ومحبيه على السواء

 

 

الرؤية – هيثم الغيتاوي

"يعيش جمال حتى في موته"، بلاغة هذا االتعبير ليست في استخدامه لمدح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في واحدة من أجمل قصائد الشاعر عبد الرحمن الأبنودي؛ الذي ذاق مرارة السجن في عهد عبد الناصر نفسه؛ إنما في معناه المُجرّد: يعيش جمال وتعيش سيرته بعد 48 عاما على رحيله؛ مدحًا وقدحًا؛ سيرة أطول من عُمر صاحبها، وأضعاف عُمر بقائه في السلطة.

في هذا الموعد من كل عام يفتعل خصوم الرجل غير المُنصفين و"الدراويش" الهائمين في حبه معارك كلامية عبر كل وسيلة إعلامية؛ فضلاً عن منصات التواصل الاجتماعي؛ يحيون ذكرى رحيله بجدل سطحي أو ساذج أحيانا؛ ومتطرف في أكثر الأحيان، وكأنه رحل قبل أيام معدودة.

من تحصيل الحاصل تجديد التأكيد على أن عبد الناصر ابن مرحلته وظرفه الزمني، لا ينكر إنجازاته وبصمته إلا جاحد ومتعصب، ولا يتغافل عن أخطائه ونتائج شطحاته إلا مُتيم أعماه الحب والكاريزما عن أي بحث موضوعي تستفيد منه الأجيال الجديدة؛ وإن جاء باستنتاجات على غير الهوى الشخصي.

 

جمال.. لا نبي ولا شيطان

معدودةٌ هي محاولات تقييم تجربة عبد الناصر في إطار موضوعي، ولا نقول محايدا، على مدار نصف قرن مضى، الغالبية إمّا مع هذا الفريق أو ذاك، وأي محاولة للبحث الجاد وطرح كل الأوراق على الطاولة؛ السلبي منها والإيجابي، هي محاولة محكوم عليها بالتشكيك والسب، وفي النهاية: بالدفن إعلاميًا. الناس دائما في حاجة للتعصّب لفريق ما، وكأن البحوث التاريخية لتقييم التجارب السياسية ساحة للتشجع الشعبوي على طريقة نوادي كرة القدم؛ لا مجال لتشجيع "اللعبة الحلوة فقط" كما يقول المعلقون الرياضيون! ولعل أبلغ مَن لخّص تجربة عبد الناصر بموضوعية شعبية، هو الشاعر الفاجومي أحمد فؤاد نجم في قوله: "عمل حاجات معجزة؛ وحاجات كتير خابت".

في كتابه "هيكل أو الملف السرّي للذاكرة العربية"، يقول الباحث التونسي/ السويسري رياض الصيداوي تحت عنوان "الحياد وهم": (هناك فرق بين الحيادية والموضوعية، فالمطلوب من الباحث هو الموضوعية وليس الحيادية، لأنّ الحيادية وهم كبير، ولأننا في مجال العلوم الإنسانية بشر، ندرس الإنسان بأحاسيسه وانفعالاته ونحن نتفاعل معه حُبا أو كُرها، حَماسا أو فُتورا، وهُنا في الجامعات الغربية نسفوا مفهوم الحيادية وحافظوا على الموضوعية، لأن من حق الباحث أو الكاتب أن يقول رأيه ويُعبر عن أحاسيسه وآرائه بكل حرية، بل يُشجَع على ذلك).

وفي ذكرى رحيل عبدالناصر، أتذكر تجربتي مع إصدار كتابي "ميراث النكسة/ كتالوج دماغ مصر في 50 سنة"، في الذكرى الخمسين لهزيمة يونيو 1967، وكيف تباينت ردود الأفعال، وهو أمر معتاد ومتوقع؛ لكن غير المتوقع أن أجد الكثيرين - في زمن الإنترنت وسهولة الحصول على المعلومة – يحكمون على محتوى الكتب وتوجهات مؤلفيها بمجرد الاطلاع على صورة للغلاف! ومن ثم تنطلق صافرة مباراة المزايدة المعتادة. عندما يتعلق الأمر بماضٍ مشرّف؛ نُغنّي مع عبدالحليم حافظ (دايما هنبُص لقدّامنا/ والماضي مش راح ننساه/ الماضي كتب مُستقبلنا بالدم.. وآدي احنا بنقراه)، وإذا كانت المناسبة استحضارا لذكريات أليمة بغرض إعادة تشريحها والاستفادة منها على أي مستوى، نكتفي بصوت أم كلثوم في غير مكانِه: (تفيد بإيه يا ندم؟ وتعمل إيه يا عتاب؟)، مُتلبّسين ثوب الحكمة وكأننا أدركنا فجأة أنه "لا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب".

يقولون إن عبد الناصر مات يوم 5 يونيو 1967، وإن بقي جسده يقاوم حتى 28 سبتمبر 1970، وهو قول يمكن استيعابه على الصعيد المعنوي فحسب؛ لكنه يغفل بصمة عبد الناصر في السنوات الثلاث التالية لهزيمة يونيو، سواء على الجبهتين الداخلية والعسكرية؛ أو على مستويات التواصل العربي والإقليمي والدولي. وإن كانت النكسة هي "سكرات موت" عبد الناصر، إن جاز التعبير، فأنقل التالي من مقدمة "ميراث النكسة":

 

اسمع من جمال.. لا عنه

بدأت فكرة الكتاب بمحاولة إعداد دراسة مُطوّلة أُسجل من خلالها ملاحظاتي على خطابات عبدالناصر في المرحلة المؤدية إلى النكسة والتالية لها، وكنت أنوى نشرها كاملة تحت عنوان (هوامش على دفتر "خطابات النكسة") قياسًا على عنوان قصيدة نزار قباني (هوامش على دفتر النكسة)، التي نعى فيها (اللغةَ القديمة والكتبَ القديمة/ وكلامَنا المثقوبَ كالأحذيةِ القديمة/ ومفرداتِ العُهرِ والهجاءِ والشتيمة/ ونهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمة)، وذلك قبل أن أتراجَع في مُحاولة لضبط إيقاع السرد، من خلال طرح 50 سؤلًا – بعدد السنوات التي انقضت منذ 1967- تتناول مختلف الشؤون والقضايا التي رأيت فيها شُبهة استمرار أو ادّعاء تغيير عند المقارنة بين ذلك الماضي القريب وحاضرنا المُريب.. إلى أي حد دفعتنا صدمة النكسة إلى المراجعة والتغيير للأفضل؟ وماذا فشلنا في تغييره على كافة المستويات، وكأن هزيمة لم تقع؟ ماذا تغيّر وماذا يقاوم التغيير على مدى نصف قرن؟ على أن تكون إجابات هذه الأسئلة هي مادة الكتاب.

وعلى طريقة شباب "الإخوان" الذين يرفعون شعار "اسمع مِنّا ولا تسمع عنّا"، رغم أننا في الغالب حين نسمع منهم بشكل مباشر نجد ما يزيد الطين بَلة، حاولت تطبيق المعنى ذاته على عبد الناصر، فلجأت بشكل مباشر إلى تسجيلات خطابات عبدالناصر والتفتيش في ردوده على أسئلة المراسلين العرب والأجانب قبل النكسة وبعدها، وهي مواد لا يُمكن التشكيك فيها لسبب بسيط، أنها تسجيلات خام يتحدث فيها الرجل بالصوت والصورة، بلا مونتاج، كما يمكن الرجوع لنصوصها في إصدارات المكتبة الأكاديمية (المجموعة الكاملة لخطابات وتصريحات عبد الناصر) من إعداد هدى جمال عبدالناصر شخصياً.

وقد وجدت على لسان عبدالناصر ما يُغنينا عن تبريرات "دراويشه" أو افتراءات خصومه على اختلاف دوافعهم، وإن لم أغفلهم كمصادر في بعض الوقائع بطبيعة الحال، على اعتبار أننا في هذه الذكرى نفتح (خزينة الميراث) بعد نصف قرن، ونُقلِب في محتواها، سواء كان ذهبًا أو قشًا! وقد أكثرت – مُتعمِدا- من الاستعانة باقتباسات حرفية ومكثفة من خطابات عبدالناصر على وجه التحديد حتى لا تكون استنتاجاتي مُرسَلة، فضلًا عن مقارنة ما جاء بخطابات الرئيس قبل النكسة وبعدها وما ورَد ضمن مذكرات رجاله وخصومه بشأن القضايا ذاتها التي نستعرضها في أكثر من 30 محورا أو فصلا يتضمنها الكتاب. وقد تعاملت مع هذه الإصدارات والمذكرات التي تناولت زمن النكسة تبريرًا أو افتراءً على مدار نصف باعتبارها هي الأخرى من "ميراث النكسة"، في فصل بعنوان "تنتهي حرب البارود، تبتدي حرب الورق".

حاولت بين السطور أن أدير ندوة افتراضية بين موتى وأحياء باعتبارهم شهودا من أهلِها.. كثير من المراجع والمذكرات والمصادر الموثوقة، وبعضها غير ذلك، كل منها كان يرى المشهد من زاويته، وبتجميع هذه الزوايا معًا في مقاربات ومقارنات تكتمل الصورة، أو هكذا نتمناها. ومن بين هؤلاء من كتبوا في مذكراتهم أو شهاداتهم إشارات عن المستقبل وإلى المستقبل الذي يتصورونه بعد النكسة، بشكل تشعر معه برغبة في أن يكون بإمكانك الرد عليهم بين سطورهم، لتقول: ها نحن في المستقبل يا أهل الماضي، نبلغكم أن المستقبل الذي كنتم تقصدونه كان أكثر غرابة مما توقَعتم، أثر النكسة كان أبعد مما ظنّ أكثركم تشاؤمًا، بمن فيكم رئيس الجمهورية نفسه!

ومن بين كل الشهادات والمذكرات، رأيت أن لسان عبدالناصر نفسه أهم الوثائق التي يجب أن يعتمد عليها الكتاب، خطابات تمتد لساعتين وثلاثة أحيانا، بعضها مُرتجَل وبعضها مُصاغ مُسبقًا، ومنها خطابات شاركت الجماهير في كتابة بعض سطورها على الهواء مباشرة بهتافات لا تقل دلالة وأهمية عن كلمات الرئيس أو كاتب خطاباته. تصريحات رأس الدولة وخطاباته العلنية وكلماته في اجتماعات مجلس الوزراء أضمن الوثائق المتاحة حتى الآن، على محدوديتها، خصوصًا أننا في دولة بـ "ذاكرة سمكة"، ترفع الشعار الغنائي "ما بلاش نتكلّم في الماضي"، وتُعادي الذاكرة في كل صورها، تكره التاريخ وتعتبره تضييعا للوقت، فلماذا تنتظر منها حفظا محترما ومحترفا للوثائق، أو تفتيشا في ماضيها عن جذور واقعها؟

مقبرة الوثائق

"لسان عبدالناصر" هو الوثيقة التي نجَت – نسبيًا- من تزويرات "دراويشه" وخصومه على السواء، كما نجَت من مقبرة الوثائق مُمَثلة في القانون 121 لسنة 1975 والقرار الجمهوري 472 لسنة 1979 الذي بالغت الأنظمة الحاكمة في تطبيقه باشتراط مرور 50 سنة على الوثائق والمحفوظات بعيدة عن أيدي الباحثين والأكاديميين، وهو أمر مُطبَق في كل دول العالم تقريبا، لذلك أشير إلى المبالغة في التطبيق، لا التطبيق من حيث المبدأ.

يُبالغون في التطبيق على كافة الوثائق، وكأنهم يُعوّلون على أنه " فات الميعاد.. والزمن بينسّي حزن وفرح يامَا"، ليموت شهود الوقائع وينسى معاصرو الأحداث، حتى تأتي أجيال جديدة قد لا تهتم أصلًا بالبحث فيما وراء هذه الوثائق والمحفوظات وما تضمه من معلومات وشهادات!

قال عبد الناصر في أول ظهور له بعد خطاب التنحِي: (أثق أن أجيالا قادمة سوف تلتفت إلى هذه الفترة وتقول: كانت تلك من أقسى فترات نضالهم، لكنهم كانوا على مستوى المسؤولية، وكانوا الأوفياء بأمانتها). وبغض النظر عن "مستوى المسؤولية والوفاء بأمانتها"، كان الرجل يدرك منذ الشهر الأول للنكسة أن أجيالاً قادمة من حقها أن تلتفت إلى هذه الفترة، مؤكدا أن (أسرار حرب 1956 كلها لم تُعرف إلّا السنة اللي فاتت، يعني بعد ١٠ سنين، وكذلك حرب 1967 مش هنقدر نعرف أسرارها كلها دلوقت، هنعرف أسرارها بعد سنوات).

يكرر إشاراته إلى المستقبل في أكثر من موضِع، ومنها قوله إن (ما جرى قد جرى، لا نستطيع إنكاره... وظروف وملابسات ما حدث سينكشف الكثير منها مع مستقبل الأيام)، لكنه ربما لم يتخيّل أن "مستقبل الأيام" التي قصدها سيمتد إلى أكثر من 50 سنة دون كشف لكافة الظروف والملابسات، لأن "وثائق عشوائيتنا" لا تزال في "الحفظ والصون"، في تحريف قانوني للمثل الشعبي: "يا خبر النهاردة بفلوس، بعد 50 سنة إن شاء الله يبقى بوثائق"!

 

تعليق عبر الفيس بوك