موبقات العمل المؤسسي وقواعد السطوة!!(1-2)

 

 

د. سعيد الحارثي

كاتب وباحث عماني

يقال، اجعل بينك وبين فلاناً "شعرة معاوية". يُتمثلُ بذلك عند النصح باللجوء إلى الحكمة من أجل البقاء على العلاقة وعدم قطع الخيط تماماً بين طرف هو في الغالب ذو سطوة، وطرف آخر لا يزال على درجة من الأهمية للطرف الأول.

لم تكن تلك الشعرة التي تنسب إلى معاوية بن أبي سفيان إلا مثالاً على ذلك القدر من الدهاء والحنكة التي كان يمارسها لضمان دوام سطوة الخلافة بينه وبين عامة الناس، ويقال إنه لما سُئل عن ذلك، أجاب: "إني لا أضع لساني حيث يكفيني مالي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجد من السيف بُدّاً ركبتُهُ، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها".

عصرياً، ليس من شك بأنّ التنظيم المؤسسي للتشريعات والقوانين التي بها كفالة الحقوق والواجبات هو ما يختصر ذلك كله ويساعد على ترسيخ العلاقة بين المؤسسة والفرد والمجتمع، بل وإلى ما هو أبعد وأمتن من "شعرة معاوية". لم يكن لسلطان البلاد - حفظه الله ورعاه - هاجساً أشد من ذلك المتمثل في ترسيخ وتنظيم قواعد العمل المؤسسي وبناء أنظمة عمل تكفل متانة العلاقة بين الدولة والمواطن. وبالتالي فإنّ السطوة بهذا النهج تجسّدت في القانون وروح القانون. وهو وحده الذي أصبح يعوّل عليه ضمان القيام بالواجبات وتنظيم الحقوق في جميع مؤسسات الدولة، ومؤسسات المجتمع المدني، بل وحتى بين الأفراد.

لست في هذا المقال بصدد الحديث عن النظام الأساسي للدولة وما ينضوي تحت لوائه من قوانين وتشريعات ولوائح تنفيذية تلقي بثقلها على أدراج مكاتب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والرقابية، وعلى عقول ساستها بطبيعة الحال. وإنّما أقف أمامها وقفة تقدير وإجلال وفخر، حيث هي من المتانة ما يرقى بالفخر إلى فردوسه الأعلى.

ومع الإيمان بغزارة تدفق روافد البناء المؤسسي وحوكمة العمليات التنفيذية على الوجه الحسن في كافة مؤسسات الدولة، إلا أنّه لا يختلف اثنان بأنّ اللوائح والقوانين والتشريعات لا يمكنها منفردة أن تكفل الممارسة السليمة، بل لا بد من توفر ذلك المزيج من الفكر والقيم والمعتقدات والدوافع بالإضافة إلى المعرفة والمهارة واللتين تمثلان الأساس للعمل وجودة الإنتاج. وتؤكد جميع الأدبيات بأنّ ذلك المزيج قابل للقياس والتقييم والتقويم. كما تؤكد أيضاً بالمقابل بأنّ حالة ذلك المزيج معرّضة لداء المخاطر والأزمات. وغالباً ما يتفشى ذلك الداء في أبسط صوره من خلال ما يمكن أن نطلق عليه "موبقات العمل المؤسسي". ففي شكل من أشكال "الاستهانة بسلطة القانون"، يلاحظ بأنّ بعض المؤسسات ترسّخ، وبفعل فَعَلَة، قواعد لسطوة من نوع آخر هي في النتيجة تتضارب مع المبادئ التي تقوم عليها اللوائح والتشريعات. والحديث عن الأمثلة من واقع الحال سأستعيض عنه، إشارة، بما جاء على لسان أحد الشعراء: "كم قصة وقضية ضاقت بها ... آمالُنا منها بها نتألَّمُ".

 

لدى بعض أصحاب الحظوة ممن هم على مقربة من أصحاب القرار، نجد أنّ هناك رغبة جامحة في تحقيق ذلك القدر من السطوة التي تكفل لهم كياناً نافذاً وهوية مستقلة، دون الرضوخ لتعاليم ومبادئ ومواثيق أخلاقيات العمل. وفي النتيجة تصدمنا الكثير من المؤسسات بتفشي منهج الاستجداء كحالة شائعة بين العاملين في تلك المؤسسة، حتى ليقال بملء الفم أنّ "فلانا هو مفتاح فلان"!، وهذا في اعتقادي من أسوأ قواعد السطوة التي المنشرة في مؤسساتنا انتشار النار في الهشيم. وهي من الموبقات التي أصبحت تعطل مؤسسية ومهنية الممارسات في أغلب الوحدات الخدمية بشكل خاص، حتى أنّ ذلك ساهم في مواضع كثيرة جداً في تعطيل مسار استحقاقات المثابرين والمجتهدين من الموظفين الذين هم في الأصل منابع الإنتاج والتجديد والتطوير في تلك المؤسسات. ويا لها من عاصفة تلك التي تضيع معها الحقوق في ظل وجود قوانين راشدة أراد لها قائد نهضة هذا البلد - حفظه الله ورعاه - أن تتحقق في الواقع!. ونخلص إلى أنّ هذا النوع من الراغبين في السطوة يتّبعون قاعدة "إجعل الآخرين يعتمدون عليك وبأي ثمن". وهي تتوالد في المؤسسات في شكل سلسلة مترابطة الحلقات وفق السلالم الوظيفية المتوفرة.

ومن الموبقات التي تفتك بحيادية العمل في مؤسساتنا، وتجعل السطوة للأفراد دون القانون، هو ذلك التعطش إلى تكشير الأنياب من خلال شخصنة الآراء غير المتفقة مع ما يرغب في تمريره الرئيس على نظام عمل المرؤوسين دون الذهاب إلى أسلوب الإقناع والتبرير المنطقي القائم على الحجة. وفي حالة كهذه يذوق فيها المجلود عصا الجلاد في جميع ما يتعلق بالمؤسسة من قرارات وممارسات عمل، بل ويُحرم فيها الممقوتون من أصحاب هذا الذنب! من الترقيات الوظيفية ومهمات العمل وحقهم من التدريب والتطوير بل ويحاسبون على أنفاسهم وحركاتهم وسكناتهم. وهذا بحق ما يؤكده واقع العمل، وسمعنا من الروايات والحكايات من الموظفين ما لا تحمله السطور، ولا تستوعبه العقول، ولا تستسيغه الآذان. وهذه من الممارسات التي لا تستطيع لجان التحقيق والجلسات القانونية في أي مؤسسة من الوقوف على إثباتاتها حيث غالباً ما تكون ممارسات واقعة في إطار صلاحيات ذلك المتنفذ الذي لا يلوي إلا على إيقاع الأذى بالآخرين حفاظاً على سطوته وماء وجهه. وهذا النوع من الراغبين في السطوة يتبعون قاعدة "استخدم نفوذك لإرهاب من هم تحتك". وهذه من الموبقات التي مُنيت بها بعض الإدارات الحكومية من خلال بعض ضعاف الشخصية ومعدومي الإمكانيات الفكرية والمهنية ممن يجثمون على صدور المخلصين من أبناء هذا البلد.

وفي نطاق أوسع، تكون فيه المصلحة العامة هي "كبش الفداء"، نجد أنّ الكثير من المؤسسات تبرر أخطاء مبتكري ومنتهجي قواعد السطوة في بعض تقسيماتها الإدارية، ويتم تجاهل ما يترتب على ذلك حفاظاً على هيبة المؤسسة دون هيبة القانون. والمتقصي بطريقة بحثية لكمّ القضايا في أروقة المحاكم الإدارية سيجد أنّ الرحى تدور في هذا الفضاء، وأنّ أصحاب السطوة أصبحوا يرهقون قضاتنا، ويسفّهون شريعة القانون، "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا"، والله المستعان.

تعليق عبر الفيس بوك