لن يُنسوا من الذاكرة الوطنية

 

عبدالله العليان

لا شك أنّ الدبلوماسية العُمانية انطلقت بقوة بعد التغيير، مع تولي جلالة السلطان قابوس الحكم عام 1970، فكان النشاط كبيراً، لاسترجاع ما فقدته عمان بعد العزلة الطويلة بسبب الظروف السياسية في ذلك الوقت، وأسبابها كثيرة لا نحتاج لسردها، لكن الحراك الدؤوب للدبلوماسية العمانية، استطاعت من خلال العديد من هؤلاء الدبلوماسيين الأوائل الذين كُلفوا بمهام الانطلاق بدبلوماسية حثيثة، لإعطاء الوجه الناصع لعمان التاريخ، ولعُمان الحاضر، وهذا ينطبق على الكثير من المؤسسات العمانية المدنية التي رافقت بزوغ النهضة العمانية الحديثة، كانت المسؤوليات كبيرة في هذا الصدد، فالظروف التي سبقت التغيير، كانت تعطي صورة معتمة وضبابية عن الوضع في عُمان، وهذه بلا شك تدركها السياسة العمانية الخارجية منذ البداية، لكن الوعي بالظرف كان ملماً ومدركاً بما ستلاقيه الدبلوماسية منذ انطلاقتها، أو التي في طريقها إلى استئناف العلاقات، مع بعض الدول العربية والأجنبية.

ومنذ فترة اطلعت على كتاب "مخضرم بين عهدين"، لسعادة السفير والدبلوماسي العماني السابق، مال الله بن حبيب اللواتي أطال الله في عمره، وهي عبارة سيرة ذاتية، كتبها الصحفي خالد حريب، والحقيقة أنّ الكتاب  يتضمن محطات هذا الدبلوماسي العريق، ونشأته وذكرياته في طفولته، إلى فترة دراسته في المراحل الأولى وما بعدها، إلى التحاقه بالعمل في العهد السابق، ثم في عهد النهضة في محطات متعددة، وهي مراحل التحدي والصمود، من أجل بناء هذا الوطن والارتقاء به، وقد قدّم لهذا الكتاب الباحث والدبلوماسي المعروف الأستاذ صادق بن جواد اللواتي، ومهّد له الكاتب الأستاذ محمد رضا اللواتي، والواقع أننا أمام جيل واجه الكثير من التحديات، ظروف تلك المرحلة العصيبة ما قبل النهضة، خصوصا مرحلة الاغتراب عن الوطن من أجل التعليم والعيش الكريم، والمرحلة جديدة لبناء عُمان، واستعادة أمجاد الماضي التليد، وتأسيس الدولة العمانية الحديثة، التي قادها جلالته حفظه الله باقتدار، وكلنا نعرف أن آلاف من العمانيين، كان الكثير منهم خارج البلاد قبل التغيير، للعمل والتعليم، ومنهم الأستاذ مال الله بن حبيب اللواتي الذي سافر في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت أول المحطات له في خارج الوطن، هي بلاد الرافدين، المملكة العراقية آنذاك، وكان شاباً متحمساً، فكان قرارًا صعباً أن يترك الوطن ويتغّرب عنه، فجمع بين العمل والتعليم في هذا البلد العربي العريق، وأستطاع أن يجد عملاً في إحدى الشركات التأمين ببغداد، حيث قضى 3 سنوات في هذا العمل بخبرات جيدة، ويتفاعل مع حياة بغداد الثقافية والفكرية، إلى جانب العمل، ثم وجد عملا بإحدى  شركات الدعاية لأحد المنتجات، ويحقق نجاحاً كبيراً في هذه الشركة الجديدة، كانت أجواء العراق كسائر الكثير من البلاد العربية، تموج في الحراك السياسي، وكان  المد القومي العربي كبيراً، والعراق إحدى هذه الدول، وكانت التيارات الفكرية والسياسية ناشطة، ويتصادف في عام 1958، أنّ يحصل انقلاباً عسكرياً على المملكة العراقية، ومن المفارقات كما يقول الأستاذ مال الله حبيب، أنّه خرج من عُمان بعد ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، وتحدث الثورة في العراق وهو ببغداد، وتتوتر الأجواء، وتخرج المسيرات والمظاهرات في العراق جراء الانقلاب على الملك فيصل الثاني ملك العراق رحمه الله، ويعطي مال الله المقارنة الفارقة بين العراق قبل الانقلاب والعراق بعدها، فيرى أنّ العراق في فترة الملكية كانت كان أكثر رحابة وسعة، من خلال الكفاءات العلمية والخبرة الإدارية، من العسكريين بعد ذلك حيث توالت الانقلابات وتراجع العراق.

لكن الحنين إلى الوطن كان يشتد ويتقوى يوما بعد يوم، خاصة عندما كان يسمع عن عمان من خلال  الكثير من العمانيين الذين زاروا  العراق في منتصف الستينات وما بعدها، عن الظروف المتوترة، والهجرة المتزايدة من العمانيين للخارج، ومنها بعض الأخبار الطيبة عن التنقيب عن النفط في 1967، وتتسارع الأحداث بعد ذلك في الوطن العربي، ثم تأتي الأخبار  السارة بتولي جلالة قابوس الحكم، في الثالث والعشرين من يوليو 1970، ويتغير الاسم إلى سلطنة عُمان، وعاد العمانيون إلى بلادهم في السنوات الأولى، من خلال دعوة جلالته لهم إلى نبذ الماضي، والعودة إلى بناء الوطن، وفي ليلة مبكرة صباحية ببغداد من  ديسمبر1971، يتلقى مال الله حبيب رسالة عاجلة، من المرحوم صاحب سمو السيد طارق بن تيمور آل سعيد، يدعوه فيها عاجلاً للعودة للبلاد، وكما جاء في هذه الرسالة "نرجو حضوركم للتشاور في بعض الأمور"، وينهي مال الله حبيب، ارتباطه بعمله ببغداد، ويعود إلى الوطن، الذي ظلّ هاجساً في عقله ووجدانه منذ اغترابه في الخمسينيات من القرن الماضي، ويقابل  سمو السيد فهد بن محمود آل سعيد وزير الخارجية آنذاك، ويلتحق بوزارة الخارجية مباشرة، ويعين مستشاراً للسفارة العمانية بواشنطن، ثم يتم التغيير بعد ذلك، ويعين مبعوثا للسلطنة في جمهورية الهند، وبحكم خبرته الدبلوماسية والسياسية، وبعد انتصارات حرب أكتوبر 1973، وكون مصر تحظى بأهمية كبيرة  في الوطن العربي، ومقر الجامعة العربية منذ نشأتها،  يتم تعيين مال الله حبيب، سفيراً بجمهورية مصر العربية، وللرجل بصماته الكثيرة بعد تعيينه سفيراً في القاهرة، من حيث مقر السفارة، وموقع الطلبة العمانيين، واتخاذ مقر لهم، وكان دوره مؤثراً في الأوساط السياسية والإعلامية لإبراز السياسة العمانية الجديدة وموقعها الهام في الجزيرة العربية.

وأتذكر عندما كنت مشتركاً بجريدة الأهرام المصرية وتأتيني بانتظام، في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كنت ألحظ المتابعة الدقيقة لسعادة السفير، لما ينشر في الصحافة المصرية، من آراء حول عُمان، فأجد منه في اليوم التالي التوضيح والتسديد لما يقال بأسلوب دبلوماسي رفيع ولباقة نيّرة، وكانت جهوده في الجوانب الأخرى بارزة، لإعطاء الصورة الدقيقة لهذا البلد الناهض، وخلال ثلاثة أعوام ونصف، قضاها في ربوع مصر الكنانة، أعطى للعلاقة المصرية/ العمانية قوة ومتانة لهذين البلدين الشقيقين، ينتقل بعدها سفيراً معتمداً لدى إيران في فترة حكم محمد رضا بهلوي شاه إيران عام 1977، وهي علاقة جوار تاريخية، بغض النظر عمن يتولى الحكم فيها، ثم مفوضاً وسفير غير مقيم لدى الجمهورية التركية، وبعد الثورة في إيران، وانتهاء حكم الشاه عام 1979، فإن العلاقة استمرت كما كانت مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فعُمان ـ كما يقول الأستاذ مال الله حبيب ـ وفق (وجهة النظرـ في سياسة عُمان ـ  تدعم الثابت من التاريخ على حساب المتغير السياسي) وهذا ما سارت عليه السلطنة في الكثير من التغيرات والأزمات في الوطن العربي وخارجه، مما أكسبها احترام العالم وتقديره لهذه المواقف الثابتة، وفي عام 1980، يصدر خطاب الاعتماد من جلالة السلطان قابوس، لتعيين الأستاذ مال الله، سفيراً في المملكة المتحدة وإيرلندا الشمالية، ومفوضا لدى لوكسمبورج. وتربط عُمان والمملكة المتحدة علاقة تاريخية، تقترب من قرنين من الزمن، كما أنّ الأجواء في لندن معروفة بالنشاط والحراك السياسي والإعلامي في هذا البلد الأوروبي المهم وأسهم بدبلوماسية متميزة في هذا البلد الأوروبي المهم، ثم ينتقل لديوان وزارة الخارجية.

ثم يبدأ المحطة الأخرى من الخارجية إلى التراث والثقافة، ويعين وكيلاً لوزارة التراث والثقافة في 1982، وأسهم الأستاذ مال الله، بنشاط حثيث في هذا الجانب المهم، بحكم الرصيد التاريخي لعُمان منذ القرون الغابرة، وكانت له الكثير من الزيارات والمناسبات والمحاضرات عن تاريخ عُمان وحضارتها وعلاقتها مع العديد من دول العالم، وهذا ما جعل الكثير من الباحثين والمهتمين يطلبون المعلومات والدراسات عن تاريخ عُمان، بعد عزلتها الطويلة قبل نهضتها الحديثة، ومن مآثر هذه الجهود للأستاذ مال الله حبيب، إصداره كتاب (ملامح من تاريخ عُمان) و(مساهمات فكرية)، وهي عبارة عن محاضرات وقراءات وانطباعات، تاريخية وفكرية.

عندما يأتي الحديث عن مرحلة السبعينيات والثمانينيات، من القرن الماضي نستعيد نستذكر جهود رجال تلك المرحلة وتحدياتها ومصاعبها، ومن هؤلاء الأستاذ مال الله بن حبيب اللواتي.. فلن يُنسوا من الذاكرة.