ظاهرة إستلهام التراث في الشعر العربي المعاصر

 

د. لطيفة الأعكل  - المغرب


تباينت الآراء والمواقف حيال التجربة الشعرية الجديدة المعاصرة ، وإنقسم النقاد إلى فريقين . فريق إتهم رواد التجربة الشعرية الحداثية بالخروج على عمود الشعر العربي والإنفصال عن التراث ، والتنكر له ومحاولة قتله . مع العلم أنّ هذا الرأي لم يكن مبنياً على حجج وأدلة منطقية ، بل كان إنطلاقاً من مواقف شخصية ، لا تمت للدفاع عن التراث بصلة.
والفريق الثاني دافع عن هذه التجربة الشعرية الحداثية بإعتبارها تجربة إنسانية تعكس واقعا إنسانياً معاصراً يخضع لعوامل إجتماعية ،وإقتصادية وسياسية مختلفة.كما أنّها تهدف الى دراسة جديدة للتراث على أسس جمالية فنية وإنسانية يمكن الأخد بها وبلورتها في ظل المعاصرة .
وقد خلق إحتدآم هذا الصراع بين الدارسين للشعر العربي ، جديده وحديثه (معركة بين الجديد والقديم ) .وهي قضية نٓحٓت للإنتصار للقديم من خلال الموازنات : (الآمدي و الجرجاني) والمفاضلة والمقارنة وكل هذه الدراسات ذوقية تأثرية ،ذاتية الأحكام ، بعيدة عن الموضوعية تنتهي دائماً بالمفاضلة في الحكم .
وتتجدد هذه المعارك الأدبية تلقائيا، في تاريخ الأدب العربي عند كل تجربة جديدة ، على أساس أنّها تهدف الى هدم التراث القديم والقضاء عليه.
والتجربة الشعرية المعاصرة لم تتنكر للتراث بل عملت على إحيائه وتثبيت جذوره وتأصيله.
ولست بهذا القول أعني الدفاع عن أصحاب هذا الرأي .فبالعودة الى أغلب دواوين الشعراء المعاصرين نجد أنها لا تخلو من توظيفٍ للتراث في صيغ وصور شعرية جمالية متعددة ، تهدف الى إسقاط الماضي على الحاضر من خلال إبراز القيم الإنسانية لهذا التراث وتقديمه في حلةٍ جديدةٍ معاصرة تهدف بدورها إلى التحرر من بعض القيود العروضية الجامدة( في نظرهم) وفسح المجال للدفقة الشعورية دون وقفة ، إلى حين أنْ يرغب الشاعر بذلك ، مما قد يساعده على التعبير عن واقعه من خلال رؤية إنسانية رحبة ومعاصرة لأعمق هموم القلب البشري ، والتعبير عن معاناته في غربته بعيداً عن وطنه ،وعن إغترابه داخل هذا الوطن أوخارجه...
وهكذا يمكن إعتبار أنّ شعراء التجربة الشعرية الجديدة إستطاعوا و ( لأول مرة أن ينظروا إلى التراث من بُعد مناسب، وأن يتمثّلوه ،لا صوراً وأشكالاً وقوالب ،بل جوهراً وروحاً ومواقف) حسب رأي الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية).
وعليه فإنّ التجربة الشعرية الجديدة ظلت مخلصة لجوهر روح التراث ولم تعمل على محاكاته والإنصهار فيه، وإغفال تطوّر الوجدان العربي . وإن كانت هذه التجربة الشعرية الحداثية قد تمرّدت على عمود الشعر العربي..
وقد كان لقصيدة “ الأرض الخراب “ للشاعر الأمريكي توماس إليوت التأثير الكبير على الرؤية الإنسانية المعاصرة لبعض رواد التجربة الشعرية العربية الجديدة الذين انبهروا بالقصيدة الإليوتية وإعتماد أدواتها الفنية دون إدراك حقيقي لوظيفتها داخل القصيدة . فحاصرتهم وجعلتهم لا يسهمون جدياً في حوار مع التراث العربي في شعرنا المعاصر ، وإن إختلفت أرضه الخراب عن أرضنا . يقول الدكتور غالي شكري / في كتابه” التراث والثورة” :(فما أعظم الفرق ..بين الحضارة الصناعية المتقدمة رغم كل آلامها وعذاباتها والحضارة التي تئن من وطأة الفقر والجهل والخوف . إنّ أرضنا خراب حقاً، ولكنه من نوع مختلف كيفياً عن الخراب الأوروبي المترف).
واذا عدنا الى دواوين شعراء هذه التجربة الشعرية الحداثية ، نلمس ان من أهم المصادر التي إعتمدوا عليها في التحاور مع التراث القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية، والتراث الشعبي التاريخي والأدبي ، والمواقف التاريخية العميقة الدلالة . والإنفتاح على موروثات الشعوب الأخرى إيماناً منهم بإنسانية المتوارث ، وأنه ملك للبشرية جمعاء.. وكنموذج على هذا الاستلهام للتراث قول السياب فيقصيدته “ شناشيل إبنة الجلبي“:
تاج وليدك الأنوارُ لا الذهب
سيُصلبُ منه حبّ الآخرين ، سيبريءُ الأعمى
ويبعث من قرار القبر ميتاً هده التعب
من السفر الطويل الى ظلام الموت ، يكسوعظمه اللحما
ويوقد قلبه الثلجي، فهو بحبه يثب

عانى السياب كثيراً من مرضه بداء السّل ولم ينفع معه العلاج وكان ينتظر معجزة للشفاء ومن هنا يأتي تأثره بالمسيح في القرآن بشفاء المرضى وإحياء الموتى.
وحنين الشاعر الى قريته جيكور خيم على أغلب قصائده وهو في نفس
القصيدة يعبر عن هذا الحنين ويتخيل كيف كان المطر في قريته جيكور تتساقط حباته بين سعف النخل كما يتساقط الرّطب من النخلة . فيستحضر الآية القرآنية25/ سورة مريم ( وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطباً جنياً)يقول :

وتحت النخل ، حيث تظل تمطر كل ما سعفه
تراقصت الفقائع وهي تفجر، إنه الرطب
تساقط في يد العذراء، وهي تهزّ في لهفة
بجذع النخلة الفرعاء

ولا تخلو قصيدة للسياب من أسطورة أو رمز وقد إقترنت ذاكرته بقصص (ألف ليلة وليلة) فكان دائماً يوظف الرّمز الشعبي المتمثل في شخصية السندباد الذي سيعود من رحلته أكثر معرفة وتطوراً بعد الطواف في البحار .
يقول في قصيدته “رثاء جدتي”:
تلوين في مهاد المنايا
وتغيبين في عذاب الأنين
وتضجين بالدموع سجاما
وتطوفين في بحار السنين
ثم آب السفين بعد طوافٍ
خالياً عودة الكسير المهين
تاركاً في البحار عذب أغانيه
.... لها بالمياه أي رنين
وهو هنا يرمز لرحلة السنين بمعاناتها والتي إنتهت به مكسور الجناح بعد موت جدته أمينة التي كان يحبها كثيراً (وللإشارة فإن رموز هذه القصيدة غامضة نوعاً ما).
موضوع ظاهرة استلهام التراث شاسع جداً ولا يمكن الإلمام والإحاطة به في مقال أو عدة مقالاتٍ أو كتاب أو أكثر.
والخلاصة أن إستلهام التراث يقتضي أن يكون الشاعر موسوعيا يملك ثقافة عالية ومتنوعة فلا يكفي الشاعر المثقف الإلمام بالشعر العربي وحده أو بالثقافة العربية وحدها، بل عليه الإنفتاح على الثقافات والتراث الإنساني قديمه وحديثه.

 

تعليق عبر الفيس بوك