قصّة قصيرة: عمر مازال ينمو

إيهاب القسطاوى - فلسطين


«ضج قلب الشارع المختنق ، الذى اكتسى في غفلة من حزنه ، بتعليقات الزينة التى أغرقته وبعضاً من مظاهر الفرح الكاذبة الخادعة ، حتى ظللت ليلة الوخيم بصورة مبهجة مصطنعة ، ومن اسفل نافذة تبزع منها سيدة متشحة بالسواد تخفى الدموع بعضا من ملامح وجهها كانت منهمكة فى استدعاء الآلام احتجزتها ذاكرة الوجع ، تجمع عدد كبير من الصبية والبنات يرتدون ملابس الوقفة الجديدة بألوانها الزاهية ، وكانوا يردّدون بعض الأغاني والأهازيج وهم يمرحون : "بكرة العيد وعانعيد وعا ندبح بقرة الشيخ سيد" ، وبينما كان يقوم البعض الآخر منهم بفرقعة البمب وتفجير الصواريخ وهم يتلذذون بسماع صوت الانفجار وتطاير الشرر والألوان الزاهية ، فى حين كان يتوالي البعض منهم اللعب مع الخراف وقضاء معظم الساعات الاخيرة معها ، وبين جنبات الشارع القديم المتهالك اصتفات البيوت على جانبيه مستندة إلى بعضها البعض في محاولة لإستحكام شداداتها المحطمة وبقايا أحمالها التي انتزعتها مخالب الزمان وقد تناثرت أسفلها عربات سن السكاكين ، وفي نهاية الشارع كانت تفترش سيدة طاعنة بالسن احدى الارصفة لبيع الرقاق المخبوز .

كانت السيدة المطلة من شرفتها المسيجة بالحزن بثوب اسود غطيس لا تعبأ لما يحدث خارج شرفتها بل بقيت تواسي وحدتها بنصل صدى ذكريات قاتلة ، حتى درات عيناها فى كل هذا العبث ليوقفها مشهد رجل ثلاثيني فظا غليظ قاسي القسمات والقبضات مقتطب الجبين قلقاً يبدو من هيئتة انة جزار كان يعقد في معصمه عقدًا غليظا يمططتُ عنق بقرة صفراء كانت تذرف من عينيها ألم بدل الدموع ملفتا كلما تحرك يصدر جلبة ملفتة للنظر ليجوب الشارع في لحظات فخر واعتزاز كفارس من ورق لاتخلو من بعض تشنجات فى معصمه .

ومن ثم قامت تسدل ستار شرفتها على ضجيج الاطفال ، لتسمع صراخ البوابة وهي تغلق ، والتفت الى الساعة الخشبية القديمة المتآكل وجهها و المعلقة على احدى الحوائط الممتعضة من لونها الذى لم تختاره ، لتجد الساعة تشير اليها هى وليس هو بتوقيت غيابة ، التفت الى صورة "عمر" التي أحاطت بها كومة الغبار من كل جانب ، ويبدو أنها قد شعرت بما شعرت بة الصورة المعلقة على الجدار بعد بعد ان رحل صاحبها ، كانت ساعات ليلة "الوقفة" هذه الليلة التى تسبق ليلة العيد ، قد مرت عليها بطيئة مثقلة بدموع الحنين ، كقاتل محترف دون وازع أو ضمير ، فكاد صيعر ألسنة الحنين تفتك بما تبقى من قلبها من حياة ، بعدما ظل الليل مستمرا في اطلاق توسلاته واستغاثته ، انتظارا لتلك اللحظة ، التى تدخل لتحمل له مزيدًا من الضى ، وبين أصابعها المشغولة بالفجر كانت تحمل زوده الزيارة التى حفظت ترتيبها عن ظهر قلب فى تلك السلة المصنوعة من القش والتى اعتدت على حملها فى زيارتها لقبر "عمر" فوضعت كحك الطلعة فى الاسفل كطبقة اولى وفوقهم بضعة حبيبات من البرتقال والموز والخوخ ، ولم تنسى ان تضع فى حافظتها الخالية دائما بضعة قطع من النقود المعدنية الصغيرة والتى اقترضتهم من الحاج انور البقال لتعطيهم للاطفال الذين اعتدتُ رؤيتهم على مدار احدى عشر عاماً خلت من ابنها "عمر" ذو العشرة أعوام بعد اصابتة بحمى شديدة اودت بحياتة ، الا انة خلال تلك الاعوام كان ينمو فى ذاكرتها وتبزغ صورتة في عينيها كسنبلة قمح تكبر يوما بعد يوم.

لم يغمض لها جفن طيلة الليل وقد بدا على وجهها ترتسم علامات التعب والهم ، وما أن لاح الصباح و نسج أول خيوطه حتى كانت على اهبة الاستعداد لمغادرة المنزل تراقبًا لموعدها كتوق عتمة السجن الى فوهة الفجر ، فقد همّت مسرعة بحمل السلة على رأسها ، ومضيت تشق طريقها وهى تتحركُ ببطء شديد ، الشارع الطويل كان يضنّ عليها ، واثناء المسير كانت تلتهم وجوه العابرين وتتأمل ملامح كل ولد يكبر ، لعلها تراه الا انها لم تراه ، ، وما إن حطت قدماها على أرض المقابر حتى وجدت باعة الألعاب الأطفال والحلوى والطبلة والرق والربابة يمشطون المكان ، كان الجميع يحتفل مع موتة بالعيد ، عدا "عمر" كان وحيد ، هرعت الية مسرعة وهى تقول بصوت مختنق : " انا معك يا حبيبى لن تعيد لوحدك ابدا حتى اتى اليك" ، واسندت راسها على حافة شاهد القبر بعد جلست القرفصاء و دخلت فى نوبة بكاء شديد:"عامل يا عمر وحشتنى قوى ياضنايا" وبين حين واخر كان يمر عليها احدى الاطفال قائلين لها رحمة ونور كانت تمد يدها المرتعشة وتعطى لة احدى حبيبات الفاكهة او كعكعة اوقطعة نقدية ، فى حين كان يمر عليها رجلا طاعن بالسن قائلا :"اقرا قران ياست رحمة ونور" ويبدا فى القراءة بتلعثم شديد واخرون يقومون بسقى نباتات الصبار المحاطة على قبرة بالمياة ، وقد خيل اليها انة يجلس امامها وانا اذرعها المشرعة قد امتدت الية لتعانقة حتى يخترق ضلوعها ، مضى الوقت الوقت سريعا ، حتى اذنت الشمس بالمغيب وانصرف جميع زوار المقابر وحتى الباعة ليخيم الليل بستائرة ، وفى هذة اللحظات كانها سمعت صوتة يهاتفها امشى يا ما ، فردت لا استطيع الرحيل ، همس لها مجددا : "أمي أنني لم أموت ، انا مازلت أنمو في قلبك وقد صار عمري واحد وعشرون عاماً فى الصباح الهو مع الغمام وفى المساء يأوي على صدري الحمام لينام "».

تعليق عبر الفيس بوك