وجها لوجه.. معطف الشعر.. استعارةٌ حالمة:


عبد الرزاق الربيعي – مسقط  


نواصل في هذه الزاوية استكمال حوارنا المطوّل مع الدكتورة غالية آل سعيد وفي هذه الإطلالة ننطلق من اللغة الشعرية وتوظيف النصوص العربية داخل المتن الروائي ودوافع الاستعانة به في تضاعيف رواية (جنون اليأس).. فإلى الحوار.......
•    في روايتك (جنون اليأس) قمت بتوظيف قصائد للشاعر عدنان الصائغ، فكان الشعر حاضرا في ثنايا النثر، هل أردت الاستعانة بالشعر لإضفاء اجواء حالمة على النص المنجز؟
- هذا صحيح، في رواية (جنون اليأس) وظّفت نصوصا للشاعر عدنان الصائغ بكثافة، وقبل ذلك وظفت أشعاره في رواية أخرى هي (صابرة وأصيلة).
حدثت معرفتي بالشاعر (عدنان الصائغ) في (لندن)، حين قابلته مع (هاشم) زوجي خلال حضورنا مؤتمرا حول الترجمة. في تلك المناسبة أهدى لنا عدنان ديوان شعره، وصادف إنني كنت أعمل على تأليف رواية (صابرة وأصيلة)، وكنت أبحث عن أشعار أستخدمها على لسان بطل الرواية المدرس الفلسطيني (شهم) الذي أتى إلى عمان للمساعدة في مجال التعليم تاركا خلفه وطنا جريحا، وشعبا مشتتا، وقضية كبيرة. يتطلب من بطل الرواية قراءة أشعاره لحبيبته العمانية (صابرة) أثناء لقائهما في غرفة الحارس (مصبح). بالمناسبة، أسّسنا تلك الغرفة في المتحف، وصارت من أنجح المعروضات، ربما لأنها تعكس بساطة الحياة في تلك الحقبة من الزمان في عمان في سنين الستينيات.
وعندما وصلت الى البيت، بدأت أقرأ ديوان الصائغ، لم أستطع وضعه حتى أكملته للنهاية. حينها أدركت أني عثرت على مطلبي، ويتطلب مني اقناع الشاعر بالسماح لي استعمال بعض قصائده للغرض المنشود، فطلبت من الصائغ السماح لي باستعمال قصائده لروايتي، والحمد لله، وافق، ورحب بالفكرة. وأتذكر إنه قال بغاية الأدب: يجب أوضح أن القصائد من تأليفه. قلت له طبعا، كيف استعمل قصائدك من دون التعريف بك ومن اين اتت هذه القصائد ومن هو مؤلفها.
ونجحت الفكرة، ولو طلبت من شاعر كتابة قصائد لشهم، لا اظن سينجح في خلق وابداع قصائد تناسب الموضوع كقصائد الصائغ. الناقد المخضرم مفيد نجم عثر على ثغرة في استعمال قصائد الصائغ في (صابرة وأصيلة) كما ظهر في نقد عن الرواية نشر في مجلة (نزوى). ذكر إنها (قصائد نثر) على لسان بطل عاش في عقد الستينيات، إذ أن (قصيدة النثر) لم تولد بعد، أو أنها في بداية عهدها، المتداول حينها هو الشعر المزون المقفى.
وبعد ذلك جاء دور رواية (جنون اليأس)، فتكلمت للصائغ عنها، وعن رغبتي استعارة أشعاره مرة أخرى. وافق مشكورا، واتفقنا على استخدام قصائده لتعبر عن الأحداث المريرة، والمحبطة، والرومانسية كالتي عاشتها الشخصيات، (نافع)، و(مليحة)، و(الدكتور نديم نصرة).

•    لماذا هذا الإصرار على قصائد (عدنان الصائغ)؟
-    وجدت في أعمال الصائغ نوع الشعر الذي كنت أبحث عنه لهذه الرواية، قصائده تخاطب الفكر، والشعور، فهو يصور بوضوح، ومن دون تبطين حالة الناس في المجتمعات المستبدة، والمستهترة بحقوق الانسان. قصائده رمح حاد يخترق المسكوت عنه، سواء في المجتمعات العربية، أو المجتمعات الأخرى، شعوبها محكومة بالتعنت، والسلاح، والنار، والحديد، والدم. أنت تشاهد صورا واضحة عن القمع، والفقر، والمرض، وطمس الحرية، والتشرد، وأنواع مختلفة من الاستخفاف، والتقليل من شأن الانسان وعدم احترام حقوقه. تقرأ قصيدة من القصائد، فتجرك إلى الأخرى، وهكذا لا تستطيع تركها مهما كانت ظروفك، ومعوقاتك.

* في روايتك الأخيرة (سأم الانتظار) تفاصيل تقترب من حياة عربية تعيش في الغرب، ما مساحة الواقع، والخيال داخل النص الروائي؟
- نعم، رواية (سأم الانتظار) ككلّ رواياتي مساحة الخيال فيها كبيرة، ولكن في أيّ عمل روائي تظهر الشخصيات وكأنها منتشله من بين شخصيات لها وجود في الواقع بل وفي حياة الروائي ذاته؛ الحقيقة غير ذلك تماما على الاقل من ناحيتي.
الروائي لا يختلف عن السينمائي، أو المسرحي عند توصيل شخصيات عالمه للقارئ، فهو يستعمل أداة الخدعة، ليدهش، ويذهل من يقرأ العمل السينمائي والمسرحي يستعين بالأضواء، والمؤثّرات الصوتيّة، وهندسة الديكور، أما الكاتب فهو يستعمل الكلمات كضوء، لرصّ، ووصف الشخصيات، وعالمها، فتبدو كأنها تعيش في واقع الحياة، يشعر القارئ، وكأن هناك علاقة وطيدة تربط الروائي بشخصيات أعماله. هذه اللعبة تسمّى (الواقعية السحرية)، التي التصقت بأعمال الكاتب، والروائي الكولومبي الكبير ماركيز. مهارة ماركيز في خلق شخصيات حية مرنة، وملوسة جعلت، ربما، لا ندا له في هذه اللعبة، لعبة ما تسمى بالواقعية السحرية في العمل الروائي؛ يأتي بهذه الشخصيات، وكأنه أخرجها من الواقع، بل من واقعه، ومحيطه، فيندهش القارئ، ويحدث له ما يشبه السحر.
لقد أصبحت الواقعية السحرية مدرسة في كتابة هذا النمط من الأعمال الروائية ذات الطابع الواقعي. ولكن في الحقيقة شخصيات ماركيز ليست سواء، وجوه وأحداث مختلطة، كما قال هو ذاته، التقطها الكاتب من المكان، والزمان اللذين بناهما، وركبهما، ووضع فيهما شخصيات أعماله. وأنا ذاتي ألتقط الشخصيات من هنا، وهناك، لا وجود لـ(خلف) في الواقع، وهو مزيج من شخصيات كثيرة، ومتعددة اجتمعت في شخصية واحدة، كما تجدها في رواية (سأم الانتظار). (خلف) يمثّل من هم من على شاكلته من المهمشين الذين يعيشون على جوانب، وأطراف المجتمعات المختلفة، وليس في مجتمع واحد على وجه التحديد.
والرأي عندي، ليس من اختصاص الروائي الصدق في بناء الشخصيات. ذاك عمل كاتب المذكرات، والسيرة الذاتية، وحتى كاتب السيرة الذاتية لن ينجح تماما في هذا الهدف، كثيرون قاموا بتأجير كتاب كي ينجزوا لهم سيرتهم الذاتية، ومذكراتهم، وفي النهاية خاب أملهم، ولم يعجبهم العمل النهائي، إذ أنه لم يطابق الواقع.

•    هل تحرصين في رواياتك على مطابقة الواقع؟
-    تتركز أعمالي على الخيال، ولكن الواقع عبارة عن عود الثقاب، فهو يشعل الخيال، وهكذا يتولد الابداع. هناك شخصيات دارت حولي، ليست شخصية واحدة بالذات، بعضها أعطتني فرصة الاقتراب من عالمها المختلف تماما عن عالمي، رأيته، ولمسته عن كثب، فأشعل خيالي بوهج الإلهام، ولولا هذه الفرص الثمينة، ربما، لن أتمكن من خلق شخصيات مثل غسان وكلارى، شهم وصابرة، دافني، وناجي، نافع، ومليحة، والدكتور نديم نصرة، وخلف، وبلندة، وشلة أصدقائها. ولا أملك إلا أن أشكر تلك الشخصيات، فهي ركيزة مهمة بنيت عليها أعمالي الروائية، وإن يكن من دون علمها.

* ناقشت روايتك (سأم الانتظار) صعوبة اندماج المهاجرين في بلاد الغرب، ما السبب برأيك وراء مشاكل الهجرة للغرب؟، وهل عانيت من هذه الصعوبة؟
- كثير من المهاجرين يجدون صعوبة في الاندماج في المجتمعات الغربية لأسباب عدة، ربما من أهمها عدم اجادة اللغة، وأمور أخرى كاختلاف البيئة، والعادات، والتقاليد، وحتى الطقس، والطعام. يحلّ المهاجر على المجتمعات الغربية بهمومه، وعاداته، وتقاليده، عنده تلك شروط مهمة لوجوده، واثبات ذاته.
من الناحية الأخرى، المجتمعات الغربية غالبا ما تكون بطبيعتها، وتركيبتها مختلفة عن المجتمعات التي أتى منها المغتربون، المجتمعات الغربية تركيزها على العمل، والمهن، وتحقيق الذات. في تلك المجتمعات الغربية قليلا ما يجد الفرد الوقت للاجتماعيات، والمداخلات الشخصية، ساعات العمل طويلة، ومنظمة لا تعطي فرصا لمثل هذا التداخل، والتعارف. إضافة الى ذلك معرفتهم بعادات، وتقاليد الشعوب الاخرى محدودة للغاية على رغم من وصولهم إلى بقاع العالم المختلفة في سنين الامبراطوريات الغربية، والبريطانية بالأخص، ورؤيتهم عن كثب لعادات، وتقاليد الشعوب.
أما أنا، فعند حضوري لم أستطع التأقلم مع المجتمع الجديد الذي وصلته قبل إلمام كاف باللغة. لا أقول إني عشت في عزلة، كنت طالبة، وفي الحياة الدراسية لا مجال للعزلة.

* أهديت رواية (سأم الانتظار) الى "الذين سئموا الانتظار فقاموا بالربيع العربي" ما الذي جعل الانسان العربي محكوما بهذا السأم، وما مدى انعكاس الواقع العربي في روايتك؟
- كلامك صحيح، أهديت رواية (سأم الانتظار) إلى من أصابهم السأم من شعوب العالم الواقفة خلف أبواب الأمل منتظرة تحقيق مطالبها، التي لم توف بها الحكومات على رغم توالي الأيام، والأسابيع، والشهور، والسنين، والدهور.
وككل كاتب، في خلال ساعات اليوم، يعجّ خيالي بآلاف الصور، والمشاهد يلتقطها نظري من محيطي، ومن وجوه من أراهم من حولي، أثناء قيامهم بالمهام اليومية من أجل المعيشة، أو من السائرين في الطرق إلى جهات، وأماكن مختلفة لا أعرفها، ولن أعرفها.
في عمان، تجدونني أرى وجوه جيراني العمانيين، وغيرهم من الجاليات المختلفة، العرب، والهنود، والباكستانيين، أشاهدهم من خلف زجاج نافذة بيتنا في مطرح القديمة أثناء عبورهم أمامي في الشارع الصغير حاملين هذا، وذاك من الأشياء سائرين الى بيوتهم، وكأن موجة التغيير لم تحل بعد، وكأن سنين الستينيات وقفت في مكانها. أرى العماني في ساعة معينة من اليوم سائرا في طريقه الى بيته حاملا لزوجته المؤونة اليومية لوجبة الغداء الأساسية "العيش والمرق" لتعدها قبل عودته الى البيت، منها السمك، واللحم، والبصل، والليمون الجاف اللومي اليابس والمانجو الانبة، أو البلح العماني الرطب، وغيرها من لوازم، ومتطلبات اشتراها من سوق السمك القريب من بيتنا.
وبعد الدوام يعود الرجل العماني إلى البيت لتناول الوجبة، يفعل هذا تماما، كما كان يفعل الرجال في سنين الستينيات المنصرمة، إنه نمط، وأسلوب حياة لم يندثر في عمان على الرغم من الحداثة، والتغيرات التي طرأت بخاصة في العاصمة مسقط. وترى المتسوقين في سوق مطرح القديم القريب من بيتنا، وترى الأحداث الكثيرة الصغيرة، والكبيرة التي تدور، وتحيط بي من كل حدب، وصوب. هذه الوجوه والمشاهد هي الأساس لفصول رواياتي، اندهش لها، وأتجاوب معها صباح مساء، وأظن أن هذه التناقضات هي لب كتابة الرواية نفسها.

•    ماهي دلالات الإهداء في (سأم الانتظار)؟
-    رواية (سأم الانتظار) هي كالروايات التي سبقتها تولدت من مشاهد مماثلة، ومن صور تكونت في ذهني عن كفاح شعوب العالم، وعن الانسان العربي في وقتنا الراهن، المتأجج، والمتصدّع من هول ما حلّت عليه من مصائب بعضها جلبتها ويلات الحروب، وبعضها جلبها التعنت، والقمع السياسي، والعسكري، وعدم احترام الحقوق الفردية، والإنسانية، وبعضها بسب عدم توازن توزيع السلطة، والثروة بين دول العالم، إنّ الذي جلب السأم للفرد العربي يتمثّل في النقص في مقومات، وأسس، ومطالب ضرورية لبناء حياة كريمة، ومجتمعات سليمة، ومكتملة. انتظر الانسان العربي طويلا، ومن ثم ضاق ذرعا بالانتظار نفسه. بجانب ذلك، عدم تحقيق هذه المطالب جلب البطالة التي ولدت الفقر، والعوز، والشتات، والهجرة التي لا مثيل لها في تاريخنا العربي المعاصر.
ومن هذا المشهد تصورت أفرادا واقفين خلف سدّ عال من المطالب ينتظرون تحققها، ولكنّ انتظارهم طال، فحلّ السأم، ذلك دفعهم للتحرك في مسيرة لتحقيق المنشود، وجلب الاصلاح، والاطاحة بالواقع المر الذي يعيشونه؛ من هنا، وهكذا يظهر منطق الإهداء، ومبرراته.

•    لكنّ أحداث الرواية ذاتها لا تتناول مشاهد مسيرات شعبية كالتي استيقظ العالم وشهدها تتبلور أمامه بسرعة مذهلة، ربما لا مثيل لهما في تاريخ المسيرات الشعبية العربية المعاصرة؟
- نعم، لكنّ الرواية تتناول مشاهد لشخصيات عربية، وغربية على السواء، تعيش في انتظار أمل مفقود، للحصول على مستقبل أفضل من الحاضر المهتز الذي تعيشه، فلجأت إلى التدليس، واقتناص فرص العيش، والتربح من هنا، وهناك. ومن منّا لم يقف منتظرا تحقيق أمر من الأمور كوصول رسالة، مكالمة، أو شخص عزيز في مكان موعد مضروب، كلنا ننتظر حدثا يرفعنا الى الأفضل من الحال الراهن كي نحقّق السعادة الأبدية، والحلم المنشود.

* انتظار ماذا؟
- المسجون ينتظر لحظة الفرج التي في يد سجّانه، المريض ينتظر لحظة الشفاء التي في يد الله سبحانه وتعالى ينفذها الطبيب المداوي. كلنا في هذه الحياة افراد ومجتمعات مربوطون بحبال الانتظار السميكة، نقف في طابور طويل ننتظر حدوث فعل وتحقق حلم، وأكثر المنتظرين تجدهم من شعوب العالم المهمشة على ضفاف أنهار أمريكا اللاتينية، وغابات افريقيا، والشوارع المكتظة في قارة آسيا.
ويقذف بنا الانتظار خلف سد عال نكاد لا نسمع، ولا نرى من خلفه سوى أشباح ما ننتظر وصوله، وعندما تطول مدة الانتظار يحلّ التوتر والسأم. وكنتيجة حتمية للسأم يقع العنف، والدمار؛ الانسان لم يخلق ليعيش مهزوما بلحظات انتظار ربما لا تأتي. إن كنت تنتظر مكالمة، ولم تصل ستسأم، وسيحلّ الغضب مكان السأم، وربما ستقطع أسلاك الهاتف، وسترميه على الأرض، من دون الأخذ في الاعتبار النتائج التي يجلبها تهشم الهاتف، سينقطع تواصلك مع العالم الخارجي، ولن تصلك مكالمتك أبدا. إن طال انتظار وصول شخص حتما ستسأم، وسيحفّزك السأم لترك المكان، وأنت غاضب، ومحبط، وحزين.
دعونا نتخيل سأم الفرد العربي من انتظار التغييرات، والاصلاحات الكثيرة، والمهمة التي وعدوه بها، سياسيا، واقتصاديا، ليعيش حياة كريمة ثابتة، ومستقرة، وثرية بعطائه، وإنتاجه، وإبداعه، حياة لا عوز فيها، ولا حاجة. لكنها لم تتحقق، فتحرّك ودفع بعجلة التغيير، هذا التغيير لم يكتمل، ولكن التحرك وقف علامة بارزة في تاريخ المشهد العربي.
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تشهد المجتمعات العربية غير القليل من التغييرات المجدية لصالح الفرد، ما حصل هو الكثير من التقلبات السياسية والعسكرية. تلك التغييرات أثمرت مجتمعات ذات شعوب مهزوزة، وخائفة، بسبب قمع الحريات، والفقر، والتردي في مستوى المعيشة، وغيرها من العلل الخطيرة مثل الشتات الذي أصبح واقع الانسان العربي في وقتنا الحاضر.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك