رواية "أرواح كليمنجارو":

سرد الذاكرة المفتوح على جرح غائر (1 - 4)

أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وناقد أكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات


بعد حضور شعري وروائي بارز في المشهد العربي، وبعد عدد من الجوائز الأدبية المرموقة، جرّب الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله أن يكتب "رواية عن المقاومة في صورها الإنسانية الرمزية الأخاذة"، كما جاء على الغلاف الخلفي لروايته "أرواح كليمنجارو(1) "، فقدّم رواية مختلفة عن كلّ ما أنتجه الكاتب سابقاً؛ حيث يمكن لسردها أن يقترب قليلاً من أدب الرحلات الذي "يدخل في درس "الصورولوجية" أي دراسة صورة شعب عند شعب آخر (2) "، ويحتوي عادة كثيراً "من المعارف الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، مما يدونه الرحالة تدوين المُعاين في غالب الأحيان، من خلال اتصاله المباشر بالطبيعة وبالناس وبالحياة خلال رحلته (3)". غير أنّ هذا الاقتراب لا يغوي بتصنيفها ضمن هذا الإطار، فالمدوّن ها هنا يتخّذ شكل السارد، والتفاصيل المدوّنة تتخذ أهميتها من حيث ارتباطها ببنية السرد الكلّي. وربما كان من المناسب تصنيفها بأنّها، على الرّغم من طولها، رواية للفتيان، دون أن يعني ذلك انتقاصاً من قيمتها الفنية، فأبطالها الفلسطينيون الثلاثة في فتوة شبابهم، وعنفوانهم النفسي الذي لا يرافقه عنفوان جسدي، بسبب إصابة هؤلاء من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي؛ وهذا بالضبط ما يجعل الرواية مغامرة يتابعها القارئ الفتى بشغف، وهو يتوقع نجاح هؤلاء وإخفاقهم في الوصول إلى قمة جبل كليمنجارو، ليضعوا علم فلسطين هناك، وينشدوا نشيد الحرية.
وفي هذه المغامرة، حيث تجابه الشخصيات قوة الطبيعة وجبروتها وجلالها، يجابه الأبطال الفلسطينيون بالإضافة إلى الطبيعة قوة الاحتلال وإعاقته وعرقلته رحلاتهم، ليسجّلوا في الأخير انتصارهم على الطبيعة التي يتصالحون معها، وعلى أجسادهم المعاقة، وعلى الاحتلال، في آن معاً.
غير أن المغامرة التي يخوضها هؤلاء لم تتجسّد في شكل مغامرة روائية تخلق شكلها المميز، ولعلّ طبيعة المغامرة هي التي قادت الكاتب أن ينحو في نصّه منحى زمنياً تعاقبياً تكسره استرجاعات الأبطال، فهو يبدأ بالسعي إلى إقناع هؤلاء المعاقين بالاشتراك في رحلة الصعود إلى قمة جبل كليمنجارو الشاهقة، مروراً بتحقيق ذلك الاجتماع في أسفل الجبل، وانتهاء بالوصول المظفّر. وربما لهذا السبب أراد الكاتب أن يؤجل لعبته الفنية إلى النهاية التي تكشف أن أحد الأبطال لم يكن ضمن المتسلّقين، وأنه رافق البطلين الآخرين بروحه عبر وجوده المفترض مع طبيبة تخفق في إقناعه بمرافقتها؛ لا لأنه يخاف عواقب الرحلة، بل ليتناوب مع أفراد أسرته على حراسة البيت الذي يريد المستوطنون الاستيلاء عليه.
حكاية الرواية:
إذا أردنا أن نبدأ من خارج عالم الحكي، فيمكننا لفت النظر إلى أن مستند هذه الرواية واقعي بامتياز؛ إذ ثمة رحلة تضامنية قام بها مجموعة من المتطوعين، من مختلف الجنسيات، إلى قمة جبل كليمنجارو، وكان من بينهم الكاتب نفسه، وقد رافقوا في رحلتهم هذه شخصيتين فلسطينيتين من ذوي الإعاقة الجسدية: فتى فلسطيني اسمه معتصم أبو كرش، وفتاة فلسطينية اسمها ياسمين النجار، وفي النهاية يصلان  قمة الجبل بعد معاناة شديدة، ويحققان حلمهما وحلم فلسطين وحلم المجموعة التي ساندتهما لصعود تلك القمة.
غير أنّ المستند الواقعي الذي ينطلق من رغبة في إدماج المعوقين (4) في المجتمع الأوسع، لا يعدو كونه مجموعة وقائع أسهم فيها المؤلف نفسه، وأعاد ترتيبها وإبداعها، بما يتطلبه الفن الروائي من تخييل؛ لنجد أنفسنا أمام  حكاية تبدأ حين تخطر الفكرة في بال ريما؛ إذ ترى، وهي على ارتفاع 14000 قدم، رجلاً كولومبياً يتحدّى إعاقته ويلعب بكرات الثلج مع فتاة. لقد كانت الفكرة هي تنظيم رحلة تضامنية إلى قمة جبل كليمنجارو بمشاركة معاقين فلسطينيين، حيث تنتقل الحكاية إلى نابلس وغزة والخليل؛ لإقناع نورا (ذات الرجل الواحدة)، ويوسف الذي فقد ساقه أيضاً، وغسّان الذي احترق جسده وخسر عينه في ذلك الحريق لكي يشتركوا في الرحلة؛ ليصل المشاركون بعد ذلك (ما عدا غسان كما توضح الرواية في لعبة فنية جميلة)، بعد صعوبات يعانون منها بسبب عسف الاحتلال وجوره، فهو لا يكتفي بإعاقة أجسادهم، بل يقوم بإعاقة سفرهم أيضاً.
وبصعودهم مع مجموعة من المتبرعين (هاري، جيسيكا، سوسن، ريما، أروى، جبريل، إميل، نجاة، جون، سهام) والدليل (صوول) والمساعدين تبدأ المغامرة، ولا تنتهي إلا برفع علم فلسطين فوق أعلى قمة في إفريقية، وهي قمة أوهورو (الحرية) في أعلى جبل كليمنجارو في تنزانيا.
ولا يخلو هذا الصعود من دلائل فوق أدبية تبدأ من العتبات التي يحتلّ العنوان جزءاً بارزاً منها؛ إذ ثمة انزياح في عنوانها عن عنوان قصة مشهورة هي "ثلوج كليمنجارو" للكاتب الأمريكي آرنست همنغواي(5) ، حيث يستبدل الروائي بالثلوج كلمة أرواح؛ ليدلّ على أنّ الأرواح هي التي تصعد، وأن الأجساد مجرّد حوامل لتلك الأرواح، وحسبنا أن نشير إلى أنّ دليل الرحلة كان اسمه "صوول"، وفي ذلك إحالة لا لبس فيها.
وثمة قبل بدء الرواية عتبتان أخريان تحتفلان بالصعود، يشير المؤلف في أولاهما إلى أنّ "في كلّ إنسان قمة عليه أن يصعدها، وإلا بقي في القاع، مهما صعد من قمم"، ص5، ويهدي في الثانية "إلى منى.. هذا الصعود وظلاله"، ص7. وكأنّي بالروائي من خلال هذه العلامات الدالة التي تشكّل إغراءً لعلم الأدلة (السميولوجية) الذي يتتبع الإشارات بوصفها جزءاً من الحياة الاجتماعية (6)، يريد أن يؤكد ما يقوله السارد، وأن يقودنا إلى البحث عن اتساع ظلال الصعود خارج البيئة الجغرافية، وهذا ما يدفعنا ارتداداً نحو فكرة المعراج التي جسّدها الفكر الإسلامي، بوصفها أداة تطهير ومعرفة، وأداة تحقيق للذات الفردية التي تخلق معراجها وتسعى إلى تحقيقه، على نحو ما أشار محي بن عربي في قوله: "والإنسان من وقت رقيّه في سلّم المعراج يكون له تجلّ إلهيّ بحسب سلّم معراجه، فإنّه لكل شخص من أهل الله سلّم يخصّه، لا يرقى فيه غيره (7)".

........................
المصادر:
1)    إبراهيم نصر الله: أرواح كليمنجارو، ط1، 2015.
2)    د. سعيد علوش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة (عرض وتقديم وترجمة)، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت، سوشبرس ـ الدار البيضاء، ط1، 1985، ص98.
3)    د. حسني محمود: أدب الرحلة عند العرب، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1983،  ص ص6ـ7.
4)    يمكن الاطلاع على النظام الإدماجي تعريفاً وغاية في:
5)    د. عبد المطّلب أمين القريطي: سيكولوجية ذوي الاحتياجات الخاصة وتربيتهم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص104.
6)    آرنست همنغواي: ثلوج كليمينجارو، دار العلم للملايين، بيروت، 1977. وكانت قد نشرت أول مرة عام 1936.
7)    يمكن هنا لفهم حدود المصطلح أن نراجع:
8)    دانيال تشاندلر: أسس السيميائية (ترجمة د. طلال وهبة)، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، نوفمبر، 2008، ص30.

تعليق عبر الفيس بوك