سيكلوجية الإنسان في القرآن (3)


محمد عبد العظيم العجمي – مصر


ثمة فارق كبير بين التعرض لإحدى القضايات العلمية الواردة في القرآن والتي أثبت العلم الحديث بالدليل والبرهان صدقها ، كقضية خلق الإنسان ومراحل التطور، وحركة الأفلاك والشمس ومواقع النجوم ، وإن كان لم يتعرض لها بصورة تفصيلية ، وبين التعرض لقضية النفس في القرآن .. ولا يعني هذا أبدا أننا ندعي أن القرآن كتاب يحيط علما بكل تفاصيل العلم وإلا لكان البحث العلمي قد توقف بمجرد نزول القرآن، بل لما كان لبيان السنة وعلوم الفقه والحديث والتفسير مكانا ، ولما كان القرآن كذلك حاثا بل آمرا بالسير خلف الأدلة العلمية والنظر في ملكوت السموات والأرض والتفكر والتدبر في الآيات الكونية ولما أثنى كذلك على العالِمين " وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) " العنكبوت ، " وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) " فاطر ، إنما جاءت هذه الإشارات القرآنية كحجة داحضة على المعاندين، وحجة مؤيدة للعالمين كما جاء في قوله " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) " فصلت ،{" وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ (81) "غافر}، والآفاق هنا قاطعة بأن الآيات المقصودة آيات كونية وليست الآيات القرآنية، إذا .. فلا ندعي أن القرآن كتاب علم بحت ، كما أنه لا يمكن أن ننكر القضايا العلمية التي تعرض لها القرآن والتي أثبتها العلم الحديث حتى صارت من المسلمات.
أما قضية النفس في القرآن فالتناول القرآني لها مختلف ، حيث أنه تعرض لها وللإنسان عموما بشيء من التفصيل والتدقيق ، مما يتيح لنا أن نستخلص منه كثيرا من الفوائد والمباحث النفسية ك "علم نفس قرآني" قد سبق إليه كثير من العلماء وألفوا فيه كثيرا من التآليف التي تستحق الوقوف عندها للاستفادة العلمية ، بالتوازي أوجنبا إلى جنب مع ما توصل إليه العلم الحديث في الدراسات النفسية البيولوجية والسلوكية، ومن هذه الدراسات التي يمكن الاسترشاد بها ، نذكر منها على سبيل المثال:
(القرآن وعلم النفس) د. محمد عثمان الشريف ، (علم النفس ـ معرفة النفس الإنسانية في الكتاب والسنة ) د سميح عاطف الزين، (من علم النفس القرآني) د. عدنان الشريف  ، (زوايا إسلامية من وجهة نظر سيكلوجية) د. بديع عبدالعزيز القشاعلة، (آفاق في الإبداع النفسي ــ ثقوب في الضمير) د. أحمد عكاشة ، (أصول علم النفس) د.أحمد عزت راجح.. وغيرهم، محاولين الجمع والتوفيق بين ما توصل إليه العلم ودوّنه مما يسمى (علم النفس أو علم السلوك ـ حسب التعبير الأدق والأحدث)، وبما أورده القرآن عن الإنسان عموما والنفس وحالاتها، ودوافع السلوك والانفعال والإثارة وردود الأفعال وكظم الغيط.. وغيرها من التناول القرآني.
وكما ذكرنا في المقال السابق التناول القرآني لقضية السلوك من ثلاث محاور: المحور الأول: محور مدخلات النفس من خلال وسائل الإدراك المعتبرة وهي السمع والبصر والفؤاد واللمس والشم، ثم المحور الثاني: هو محور الانفعال الذي ينتج عن الإدراك والفهم لما يرد على النفس والنزوع قبل مرحلة الفعل ، والمحور الثالث: وهو مخرجات السلوك التي تنتج كما ذكرنا عن مسألة الإدراك وهي الفعل أو السلوك أو العادات.
وإلى المحور الأول: مدخلات الحواس هذا المصدر الرئيسي للتعلم الإنساني والتواصل مع البيئة من حوله ، وهو ما يسمونه في المصطلح العلمي (المثير، الدافع )، وتنقسم الدوافع إلى نوعين: دافع فطري أو عريزي لاستكمال الحاجات البيولوجية ، ودافع مكتسب وهو الذي يتكون من خلال الاحتكاك البيئي والمجتمعي ، كما أنها الأساس في تشكيل (السلوك) ـــ كما قلنا ـــ بناء على عملية التفاعل مع البيئة المحيطة والتي تقسم في علم النفس إلى: (بيئة طبيعية أو واقعية ) كما يقول د. أحمد عزت راجح (أصول علم النفس) وهي كل ما يحيط بالإنسان ويخالطه، ويؤثر أولا يؤثر في تشكيل سلوكه، أما (البيئة السيكلوجية)، فهي البيئة التي يتفاعل معها الإنسان بشكل مباشر ويؤثر فيها ويتأثر بها  ويكون لها الدور الرئيس في تشكليل السلوك، فما بينه القرآن وما بينته السنة كذلك، قد عدد كثيرا من الوسائل لحفظ مدخلات السلوك وبالتالي ضبط الانفعال والأفعال لعمل نوع من التناغم والتكيف بين الإنسان والبيئة المحيطة من حوله والتي تتحد مع عامل الوراثة لتشكيل الطبع الإنساني (الصفات الموروثة والمكتسبة)، ليحقق له هذا المنهجُ السلامَ النفسيّ وبالتالي السلام مع الآخرين، أي (السلام الذاتي والاجتماعي)، وحينها أيضا يصبح الفرد عنصراً فاعلا في المجتمع يسعى لسلام الآخرين ومنفعتهم، بدلا من العمل ضد المجتمع وتكوين شخصيات عدائية أنانية (السيكوباتي) تقوض البنية الاجتماعية والأخلاقية والحضارية، وتثير القلق وعدم الأمان النفسي والاجتماعي "وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ" سورة البقرة، الآية: (205).
ومن أكثر المصادر التي تستثير القلب وتؤثر في تشكيل السلوك هي (السمع والبصر) ويتلقى منها الفؤاد الذي يحرك الفكر، ولذا نجد الربط القرآني المتعدد بين هذه العوامل في أكثر من آية (السمع والبصر والفؤاد)، كما ينهى القرآن عن إطلاق البصر والسمع في المحرم لئلا يجد منه في نفسه مالا يقدر على دفعه أحيانا ، فغض البصر عن الحرام زكاة للنفس وراحة للقلب، وإطلاقه يعد من مثيرات القلق والنوازع المستفزة لهما، فقال {" قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}" سورة النور ، الآية (30) "، حيث أن الإنسان لا يستطيع بلوغ كل ما تنزع إليه نفسه ولا الكف عنه، فالبصر يستملح الصورة التي تزين له فينقل صورتها إلى الفؤاد الذي ينفعل معها عن طريق إشارات المخ وتحدث عمليات التفاعل الكيميائي مما يولد الأفكار والنزوعات والهم والإرادة ثم الفعل ، وإذا لم يتولد الفعل يظل هم النفس ونزوعها أصعب ما يواجه الإنسان في التغلب عليه من مرحلة ما يسمونه (الصراع النفسي)، لذا كان من الأولى غض البصر لحفظ القلب وسكون النفس، ولذا عبر القرآن عن ذلك بقوله "ذلك أزكي لهم "أي أدعى لحالة الاستقرار النفسي والطمأنينة، وكذلك العزوف بالنظر عن زخرف الدنيا وزهرتها التي لا يستطيع الإنسان الوصول إليها، والتي جعلت كنوع من الفتن لبعض الناس الذين أعطوا الدنيا ليمتحنوا بالشكر، والذين لم يعطوها ليمتحنوا بالصبر، ثم التطمين النفسي بأن رزق الله خير وأبقى مما يمكن أن تمتد له العين وتفتتن به النفس، وأن الصلاة هي الطمأنينة الحقيقية والتثبيت والسكينة ، مع دعوة الأهل إليها والاصطبار عليها، وهي مجلبة للرزق أيضا مع المداومة ولزوم التقوى فقال:
 "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى. وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى" طه ، كما يحذر القرآن من اقتفاء الإنسان مالا يعنيه وتتبع ما ليس له به علم ، لأنه مسئول عن ما سمع وأبصر واختلج به الفؤاد من آثار ما نقله السمع والبصر: فقال:{" وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} سورة الإسراء، الآية (36)، وهذا يؤكد على أن تطهير وانتقاء المدخلات السمعية والبصرية هي من دواعي راحة القلب واطمئنانه وزكاته ، كما أن الإسراف فيها من دواعي القلق والاضطراب ثم يسأل عنه الإنسان بين يدي الله يوم العرض عليه. وأما حفظ السمع عن الحرام والتحري لاستماع أحسن القول لاتباعه والعمل به هذا من الهداية والرشد والدلالة على صحة العقل والقلب والنفس :{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ"} سورة الزمر، الآية (18).. ولقد عاتب القرآن أتباعه المؤمنين في إلقاء السمع كذلك للمغرضين والمرجفين والمنافقين ، وهددهم بما يمكن أن يمسهم من العذاب إن عادوا لذلك ، ونهاهم عن تلقي القول منهم ، أو سرعة نقل الكلام من غير تثبت (خاصة) إذا كان فيما يتعلق بالأعراض ودواخل البيوت وحرماتها فقال: " إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) " سورةالنور، وقال عن المنافقين " لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) " التوبة .
وقد أعظم العقوبة كذلك في الدنيا والآخرة للذين تستملح نفوسهم المريضة مثل هذه الإشاعات المغرضة ، فيسعون إلى تبادل الحديث فيها (خاصة في المجتمع المؤمن العفيف )، ثم يشيعون ذلك بين الناس للإرجاف وإشاعة الفاحشة ، فقال عنهم: {" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون " النور}.
 كما أن حفظ الرأس وما وعى وهو يعنى حفظ السمع والبصر والذوق والشم والعقل والفكر وكلها من مدخلات النفس، كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء ، قال قلنا: يارسول الله إن لنستحي والحمد لله، قال :ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى" والبطن وما حوى هو التحري لأكل الحلال والبعد عن الخبيث لأن أكل الطيبات من زكاة النفس ومن أسباب التوفيق للعمل الصالح ، ومما أمر به الله المرسلين كما أمر به المؤمنين فقال "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم " المؤمنون.
ومع هذا الاحتراز لمدخلات النفس التي تتم عن طريق الحواس والتي يتشكل تبعا لها السلوك الإنساني، طبقا لعمية الإدراك ثم الفكر ثم النزوع ثم الفعل الذي يتكون من تكراره السلوك (السوي أو الغير سوي ) والذي يسمى بعد ذلك بالعادات التي تكون الصفات.
أما المحور الثاني: وهو مرحلة الانفعال أو الإثارة التي تنتج عن الدافع الخارجي (البيئة)، أو نتيجة الدافع (العريزي)، فعملية الاحتكاك والتفاعل البيئي لابد أن ينتج عنها عملية الإثارة النفسية ثم السلوك، ونظرا لما يتعرض له الإنسان من أنواع الإثارات المختلفة والتي يمكن أن يتولد عنها بعض السلوكيات النفسية الغير سوية كالغضب والحسد والكراهية، أو الغير منضبطة كالظن.. يأمر القرآن الكريم بضبط الانفعالات والوقوف بها عند حدود التحكم العقلي وعدم الاستسلام لتلك الحالة التي تؤدي إلى تغلب النفس على العقل فيصدر السلوك العدواني الذي يسبب الضرر للنفس والغير، وعلى رأس هذه الانفعالات التي يحذر منها (الغضب) وما ينتج عنه في قوله: "والكاظمين الغيظ" آل عمران ، والغيظ هو الانفعال الناتج عن الغضب الشديد الذي يحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال له أوصني ، قال "لا تغضب " فردد مرارا ، قال " لا تغضب " رواه البخاري، قال المناوي: هذا الحديث ربع الإسلام، لأن الأعمال خير وشر، والشر ينشأ عن شهوة وغضب، ونقل ابن حجر عن بعضهم، قال: تفكرت فيما قال: أي قول النبي صلى الله عليه وسلم  "لا تغضب" فإذا الغضب يجمع الشر كله.

 

تعليق عبر الفيس بوك