سيكلوجية الإنسان في القرآن (2)


محمد عبد العظيم العجمي – مصر


من الأعراف العلمية المسلم بها، أن يأخذ كل علم من سابقه، وأن يبدأ كل فريق من حيث انتهى الآخرون، وأن ترث الحضارات بعضها بعضا بعلومها وثقافتها مع الاحتفاظ بهويتها وخصوصيتها، ولكن الخطأ العلمي الذي وقعت فيه العلوم الغربية الحديثة التي تناولت قضية الإنسان والنفس أنها أغفلت المنهج القرآني في تناول قضية الإنسان وسيكلوجيته ودورة الخلق والحياة التي أسهب وأطنب وأجاد فيها وفصَّل، بالإضافة إلى نوعية العلم القرآني الذي لا يحتمل الفروض ولا النظريات ولا التجرية، إنما هو منتهى العلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..
لذلك نرى علوم الإنسان والتربية أخذت شوطا كبيرا جل اعتماده على التجربة والملاحظة والاستقراء دون أن تهتدي إلى أدلة قاطعة فيها ، بالإضافة إلى مضيعة الجهد والوقت التي كان من الممكن أن تستثمرها في دراسة المنهج القرآني بشموليته وصدقه ثم البناء على أسسه المنهجية الموثقة ، فتسلم من عنت الجهد ومن احتمالية النتائج ، هذا بغض النظر عن قضية أن تؤمن أولا تؤمن، لكن القصد هو الاستفادة العلمية من باب أن العلم لا يعرف حدود الأوطان ولا الأديان ولا الأجناس .
من هنا يمكن أن نضع أيدينا على وقفة بسيطة نتتبع من خلالها منهجية القرآن في بناء الإنسان نفسيا واجتماعيا ، كموضوع يحتاج إلى كثير من التفرغ لتقصي هذا الأسلوب القرآني في التربية النفسية والاجتماعية التي تعلي من قيمة الإنسان وشأنه، وتشكل سلوكه عن طريق فرز المدخلات وتهذيب المصارف (السلوكية)، من خلال إصلاح وتنقية بوتقة النفس التي تستقبل وتفرز هذا السلوك بعد معالجته.
لقد سميت سورة كاملة في القرآن بسورة: {الإنسان} إعلاء لقيمته الكونية والخَلقية وما أنيط به من التكليف ، وأنه لم يكن شيئا مذكورا قبل أن يشاء الله أن تنفخ فيه الروح فيتحول بهذه النفخة الرحمانية الربانية إلى هذا المخلوق الحي المفكر المتأمل (المستخلف في الأرض)، فتتحدث السورة عن طور من أطوار خلقه الذي كان هينا (نطفة أمشاج) ولولا ماحف به من العناية والرعاية لما انتقل إلى حيز الوجود والخلق حتى صار سميعا بصيرا، ثم تتكرم عليه عناية الله بالهداية لسبيلي (الشكر والكفر)، وتذكر نموذجا مفصلا لكلا الفريقين (الشاكرين والكافرين) والنهاية المعدة لكل منهما في الآخرة ، ثم تختم بالحديث عن هذه المشيئة التي تحقق له هذا الاختيار (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ) هذه المشيئة التي حار فيها أولوا الألباب والفكر فأثبتها البعض وأنكرها البعض الآخر وحاد بعضهم بها متأولين عن جادة الفهم وما ذلك إلا لإطلاق عقال العقل وعدم الوقوف على حدود العلم.
 واستكملت سورة (القيامة) هذا التوصيف لحال الإنسان ، وهي السورة التي تبدأ مقسمة بيوم القيامة الذي يسأل الإنسان مستنكرا عن موعده ، وتقسم بهذه النفس (اللوامة) التي ما تفتأ تذكر صاحبها بنعم الله وتعدد آلائه، وتلومه على النكوص عن حجة الله الواضحة البينة ، ثم تعتب عليه السورة في إنكار البعث وجمع رميم العظام ، والجدال فيه رغم الإقرار بالخلق الأول، وإن كانت إعادة الخلق أهون في التصور الإنساني عن بدئه، وتقيم الحجة عليه من نفسه بل من أبسط عضو من أعضاءه وهو البنان، كما تقيم عليه الحجة من داخل نفسه التي جعل الله منها على نفسها بصيرة مهما ألقت من معاذير، أو مهما حاولت إلقاء الأستار على نفسها فإن الشهادة قائمة عليها من أعضائها (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24). [سورة: النور].
وإذا كان هذا الخلق (للإنسان) قد تم بحكمة وتقدير، ولحكمة بالغة وإلى أجل مسمى ، فإن أمر الإنسان في منتهاه لن يترك سدى ، ولن يكون كما يظن هو أو يحاور من محاججة باطلة ، إنه كما أودع كنطفة ثم علقة ثم كان خلقا كاملا جعل منه الذكر والأنثي، فسيكون مرده حتما إلى هذه المشيئة التي أبدعت خلقه من كل ذلك وأحكمته والتي آلت على نفسها الإحياء بعد العدم ، والبعث بعد الموت.
أما النفس: فقد ذكرت في القرآن ككيان مستقل ـ كما ذكرنا ـ يفرق بينها كجزء من الكيان الإنساني العام ، وأنها لها خصوصية وصفات وماهية تميزها عن هذا الكيان وإن كانت جزءا لا تنفك عنه ، ولا يكون لأحدهما غناء عن الآخر، مما جعل أمرها مدعاة للتأمل والتبصر" وفي أنفسكم أفلا تبصرون" الذاريات،  وحق ذلك لما يكتنفها من الآيات والفكر ..
وأما في العلم البشري فقد حار الفلاسفة وعلماء النفس وتباروا في استخلاص مفهوم شامل دقيق متفق عليه (لٍكُنه) هذه النفس وما يتعلق بها من الأغيار والأفعال والأحوال وما يرد عليها من الخواطر والانفعالات، وقد اهتم علم النفس بالتركيز على الاستبطان والتأمل والملاحظة السلوكية وتخمين النتائج، رغم اختلافها من شخص إلى آخر في السلوك والعلامات، ولذا لا يقبل البعض اعتبار (علم النفس) كعلم مستقل لأنه لا يعتمد على نتائج ومخرجات علمية يقينية ، ولكنه في جزء كبير منه يعتمد على استخدام الحدس والتجربة الشخصية ، ودراسة السلوك لتسجيل نتائج تراكمية ،  أكثر منه أن ينصب على كنه النفس نفسها وتعريفها.
ومن خلال حديث القرآن عن النفس وتتبع الآيات وتفسيراتها نستطيع أن نخلص إلى تعريف مُرضٍ للنفس نسبيا ، فإذا كان الإنسان يتكون من جسد وروح وعقل ونفس، فإن النفس هي: " هذه الأحوال والأغيار والتقلبات والمشاعر والانفعالات والسلوكيات التي تنتج عن هذه العلاقة التفاعلية بين نفخة الروح (النورانية الربانية) "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) " [سورة: الحجر]، وبين مادة الجسد الأرضية التي ركب فيها الشهوات والرغبات مما يحفظ الحياة والنسل من خلال العمليات الحيوية (البيولوجية) التي تمر بها.
وأما هذه الأحوال والأغيار والانفعالات التي تنتج من خلال عمليات بيولوجية معقدة ثم تترجم إلى مشاعر ثم إلى سلوك ، فإن هذه الترجمة لا تتم إلا من خلال الإدراك، والإدراك لا يكون إلا من خلال العقل، ولذلك نجد كثيرا من هذه المشاعر لا تتكون في المراحل الأولى من العمر، ولا تظهر كذلك عند الإنسان الغير عاقل ولا عند الحيوان.. إذا فهناك جزء من العقل الذي يترجم هذه العملية البيولجية إلى مشاعر وأحاسيس وانفعالات، وهذه العلاقة بين الروح والجسد هي علاقة تداخل وليس امتزاج لأن الروح مستودعة في قالب الجسد إلى أجل مسمى ثم ما تلبث أن تفارقه، أما دور العقل فهو الحاكم والقائم والقائد لهذه العلاقة، وهو ما ذكر في قوله "بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) " [سورة: القيامة]، هذه البصيرة لا تأتي إلا من العقل، فإن استطاع العقل أن يزكي النفس فيغلب نفخة الروح على مادة الجسد وشهواته ـــ إلا فيما هو مرخص له ــ فإنه قد أفلح ، وإن ضعف العقل أمام شهوات الجسد فقهرت نفخة الروح واستعدت على المحارم استقوت النفس على العقل وصارت فيمن "دساها"، ولذا كان العقل أيضا كيانا منفصلا عن النفس والجسد، وهو الخلق الذي كرم الله به الإنسان وأعلى به قدره ، ومدح أهل العقل في كتابه وأثنى عليهم في أكثر من موضع " إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) " [سورة النحل] ، " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) [سورة: الزمر]، " وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) " [سورة: العنكبوت].
ومحور الحديث هنا هو النفس (الإنسانية) المذكورة في القرآن بصفاتها وعلاماتها في قوله "ونفس وما سواها" ، لكن قد تأتي النفس في القرآن بمعان خلاف المعنى المذكور ضمن التعريف السابق ، نعرض لها بشيئ بسيط من التأمل ، فقد وردت النفس بمعنى الروح في قوله " اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) [سورة: الزمر]، وفي قوله " أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) [سورة: الأنعام]، وقد ترد بمعنى الإنسان كما في قوله " يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) [سورة: آل عمران]، " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) [سورة: آل عمران]، وقد تأتي بمعنى الجماعة أو الأمة في قوله " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164) [سورة: آل عمران]، أما النفس المذكورة في قوله " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " الذاريات ، فهي تشمل عموم النفس (الجسد والنفس والعقل والروح ) لأن التبصر هنا ليس المقصود به الملاحظة النظرية ، لكن يقصد به (البصر والتفكر من خلال بصيرة القلب) أي الوقوف على كل ما في هذه النفس من جسد وروح وعقل وقلب وما صاغ هذه المكونات مع بعضها ليبدع هذا الإنسان المخلوق العجيب الذي يباهي الله به ملائكته ، والمعنى أن الإنسان له في نفسه من الكفاية من العظة والاعتبار من جميل الصنع وطلاقة الخلق ما يجعله في غنى عن الاستدلال على الخالق من خارج نفسه من الكون ، ويكفيه عجزه عن إحاطة العلم بهذه النفس التي يملكها ولا يعلم عن أمرها إلا القليل، وهذه الروح التي تسكن ذراته وتسري في أوصاله ولا يصل إلى كنهها " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) [سورة: الإسراء].
يتناول القرآن قضية النفس من خلال ثلاث محاور رئيسية: المحور الأول: محور مدخلات النفس من خلال وسائل الإدراك المعتبرة وهي السمع والبصر والفؤاد واللمس والشم، ثم المحور الثاني : وهو مخرجات السلوك التي تنتج كما ذكرنا عن مسألة الإدراك وهي الفعل، والمحور الثالث : هو محور الانفعال الذي ينتج عن الإدراك والفهم لما يرد على النفس والنزوع قبل مرحلة الفعل، ومن خلال المراقبة لوسائل الإدراك والاحتراز لما يرد عليها وما تنقله إلى داخل النفس ، ثم الضبط لمسألة الانفعال والنزوع وهو ما نسميه بلغتنا  "ضبط النفس"، نستطيع التحكم إلى قدر كبير في مخرجات السلوك الذي بدوره يتحول إلى عادات وصفات، وهذا هو مجمل الغرض القرآني من هذه التربية المنهجية والصياغة الإنسانية.

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك