"فئران أمّي حصّة" لغة تجرح القلب والرّوح


أ.د/ يوسف حطّيني – ناقد وأكاديمي فلسطيني – جامعة الإمارات


أن تقرأ رواية فائزة بجائزة مهمة مثل جائزة البوكر، فذلك يضعك أم استلاب استباقي، استلاب يجعلك تستسلم لمجهول قاد مجموعة من المتخصصين إلى منحها تأشيرة دخول مواربة إلى عقل القارئ وقلبه وروحه.
وللحقّ فإنني أعترف أنني تأخرت كثيراً في قراءة رواية "فئران أمّي حصة" لسعود السنعوسي، على الرغم من الإطراءات والتشجيعات التي سمعتها بخصوصها من الأصدقاء، غير أنني حين حانت فرصة الفراغ من الضروري سارعت إليها؛ لأجد فيها رواية تجرح قلب القارئ بمبضع السرد.
يعطي السنعوسي أهمية كبرى للعتبات التي تتعدد قبل السرد الأول(كتكوت وفؤادة وزور ابن الزرزور)، وقبل أقسام الرواية الأربعة (أحمد مشاري العدواني، وخليفة الوقيّان، وسعاد الصباح، وعلي السبتي). وتنعي جميعها الإنسان الذي لم ينتبه بعد للفئران القادمة، وللدمار المنتظر الذي سيخلّف القتلى بالآلاف؛ حيث تَبَّاعُ الجيف الذي "له جسد العقاب ورأس البومة ولون الغراب"، ص302، حاضر في لحظة الاقتناص. وعلى الرغم من أن نجم سهيل يبزغ في نهاية الرواية، فإنّ هذا البزوغ لا يعدو نصراً رومانسياً حالماً على وضعٍ تنفيه حكاية الرواية، عبر أقسى تجلياتها الذي تمثل في وفاة الطفل حسن ابن حوراء، بما يعنيه ذلك من موت لكل أمل في المستقبل.
ولولا النخلات الثلاث التي بقيت صامدة "اخلاصة وسعمرانة وبرحيّة، أو بنات كيفان كما تسميها صاحبة البيت العجوز"، ص31، على الرغم من سطوة الزمان والمكان؛ لأمكن القول: إنّ المرء ربما لن يقرأ في حياته رواية أكثر تشاؤماً من "فئران أمّي حصة"؛ ذلك أنّ إيقاعات الرواية تدق طبول الرعب والهجران والفقد، وتستلب كلّ صورة للأمل؛ إذ صار الخوف يتسلل إلى قلوب الجميع حتى والدة السارد التي "لم تعد كما كان يصفها والدي مناكفاً: ناظرة في المدرسة وفي البيت، صارت قلقلة تنتفض كلما ارتطم باب الحوش الحديدي بفعل الريح، وتردّد دويّه في الشارع، تصرخ إذا أطلق صبية الحي ألعابهم النارية، احتفالاً بفوز فريق كرة قدم"، ص11. كما صار الهجران جزءاً من هوية المكان/ السرّة التي صارت مدينة أشباح، ص ص23ـ24، وغدا إحصاء المفقودات أكثر ضرورة من إحصاء الموجودات بعد حرب استعادة الكويت:
"عاد خليط شارعكم كما ألفتموه.. الجميع عدا! صرت تحصي ما لم يعد موجوداً في وطنك الجديد. تحسب الأشياء التي أخذتها معها قوات الاحتلال انسحاباً؛ روح أمك حصة، بصر فوزية، وجود تينا ورائحة زيت جوز الهند، حضور خالك حسن، حرف الراء في لسان ضاوي، صيحات أبي سامح الفلسطيني: بَرِّدْ.. بَرِّدْ...."، ص259.
نضيف إلى ما سبق لغة الشحن الطائفي التي تقبّض القلب، وهي _ وإن كانت لغة الشخصيات لا لغة السارد _ تنبش قبوراً لغوية متفسخة أرى أننا بغنى عن نبشها، وربما كانت الرؤية العامة للرواية (وهي رؤية داعية للتصالح والتسامح والانصهار في بوتقة الإسلام السمحاء) غير قادرة على مسح آثار كلمات تقرّع الآذان بلا رحمة، من مثل السياقات التالية:
•    "لا أنصحك بدخول الجابرية في هذا الوقت (...) الرافضة يتربصون بنا"، ص66.
•    "الله يلعنهم، نواصب، أنجاس"، ص68.
•    قال صادق، إن عمي عباس يقول: إن أهل البيت يلعنوننا. سألته مندهشاً: أهل بيت عمي عباس؟ ردّ ضاحكاً: لا يا حمار. أهل البيت اللي يعبدهم عمي عباس وخالتي فضيلة وأمي زينب، وصادق وحوراء"، ص75.
وحتى لا نغمط الرواية حقّها من الناحية الفنية، فإننا نشير إلى قيامها على مجموعة من التوازيات البنائية؛ حيث تنقسم إلى أربعة أقسام تتوازى فصولها بين "الفئران الأربعة" و"يحدث الآن"، إضافة إلى توازيات يقيمها السارد بعناية بين الماضي والحاضر، وبين لغتين تنتميان إلى ذلكما العصرين على نحو ما نرى في السياق التالي: "أعرج نحو سيارتي، ألم ساقي لا يحتمل، جوقة الأطفال في رأسي تغني: "والفلوس عند العروس"، عروس الخليج. أتلفت حولي، لا شيء يشبهها، أهرب من تسمية قديمة، أهرب من كل شيء، أعاود النظر باتجاه سيّارتي، "والعروس تبي عيال"، ص19.
نضيف إلى ذلك التوازي بين لغة السرد والأغنية الشعبية، وبشكل خاص ص ص 17ـ22، وبين لغة السرد ولغة الشعر، ص ص80ـ 81، وبين لغة السرد والقرآن الكريم،ص 347.
وتمتاز لغة السرد عامة بالشعرية الفائقة خاصة في بداية السرد الروائي ونهايته، غير أنّها تنحدر إلى لغة ذهنية حين تقترب أكثر من المذهبية، فتتحدث عن الرافضة والنواصب والفرس والخوارج والوهابية والخنازير. ولعلّ أكثر المقاطع شاعرية وأثراها لغة ذلك المقطع الذي يرصد رد فعل عائشة والدة فهد على وفاته بين يديها:
_ "تقرّب خالتي عائشة شفتيها إلى أذن ولدها، تهمس: فهد حبيبي اصحى.. مطبّق السمك جاهز.. تدسّ كفّها في الرز داخل القدر، تقتطع جزءا من السمكة، تنتقيه بحرص، تضحك، تردّد لازمته: مياو! تقرّب كفّها إلى شفتيه: يا الله بسم الله"، ص434.
_ "تحسب انّه ع مزاجك تموت؟ أذبحك.. والله أذبحك، إذا متت وخلّيتني"، ص435.
ولعلّ من المناسب الإشارة إلى أنّ الروائي يطعّم لغته بالسائد الاجتماعي الذي يرصد الوعي الشعبي من جوانبه المختلفة؛ فهو يبين مدى تحكم الفرد الذكر بأخته وخضوعه لزوجته، من خلال رصد موقف صالح من إكمال فوزية تعليمها الجامعي، فقد منعها من ذلك، على الرغم من أنه لم يمنع زوجته من ممارسة التعليم؛ فهي في مدرسة بنات!! لذلك تقول فوزية في غيابه: "أسد عليّ.. دجاجة مع زوجته"، ص45 وثمة موقف ذكوري آخر لصالح نفسه؛ إذ يحث فهداً على تطليق حوراء بعد أن اضطرت إلى بتر ثديها.
وثمة إشارات أخرى إلى الألعاب الشعبية، حيث يحمل فهد كرة بحجم كرة التنس، ويجمع حجارة: "لعله يتجهّز للعبة "عنبر" مع صِبية الشارع"، ص13، وإلى بائع الصرّة الذي "يفكّ رباط صرّته الزرقاء، المرقّعة بقطع من كلّ الألوان، يفرشها فوق لبيلاط"، ص59. وإلى العادات والتقاليد وطرق حساب الأعمار في الزمن الغابر، فحين يسألون حصة: كم عمرك؟ تذكر أن أمها أخبرتها: "جيتي يا حصيصة للدنيا سنة الطبعة، أو عقبها بسنة سنتين، عقب ما غرقت المراكب في مغاصات الخليج"، ص186.
كما أنّ ثمة إشارات أخرى إلى الإيمان الغيبي، وتسخير كل مشاهد الطبيعة لذلك الإيمان؛ حيث تمدّ حصّة سبّابتها "باتجاه القفص: شوف شوف، تحثّني أنظر إلى الدجاجات تناجي ربّها في السماء، تحمده على سقياها. يكفهرّ وجهها فجأة: حتى الدجاج يعرف الله.. ليت ربي يهدي زوجة أبو سامي"، ص57.
إنّ رواية "فئران أمي حصّة" رواية مشغولة بدقة، فهي تفيد من التوازيات البنائية الممكنة، وتستثمر لغة شاعرية في مساحات واسعة من السرد الروائي، وتفيد من توظيف البعد الاجتماعي للغة، غير أن حجارة المذهبية التي تمثّلها الشخصيات خدشت زجاج اللغة؛ وخدشت كذلك روح القارئ الذي ربما كان يبحث عن مكان ما خارج الجحيم.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فئران أمّي حصة: سعود السنعوسي، الدار العربية للعلوم: ناشرون، ومنشورات الضفاف، بيروت ـ الرياض، ط5، أبريل، 2015م
عندما يسأل السارد زينب: "من تشجعين.. إيران أم العراق.. التفتتا إليّ، أجابتني أمّي حصة: هذه حرب، الله يجيرنا، ما هي مباراة كرة قدم، يا خبل"، ص ص116ـ 117.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك