التعليم والمنجور في بلاد العُرْب سيَّان

حمد بن سالم العلوي

 

سأل الوالد ابنه العائد لتوِّه من المدرسة، قائلاً: كيف وجدت المدرسة بعدما غادرتها صبيًّا يافعا؟ هل اختلفت على أيام حفيدي عن أيامكم؟ قال ليس هناك اختلاف كبير عما كانت عليه مدرستنا في تسعينيات القرن الماضي، طيب ما الذي ظل دون تغيير؟ قال: أشياء كثيرة، ومنها ما لا يزال على ما كانت عليه الحال، الأطفال يتدافعون على أبواب الحافلة، ولا يزال الأطفال الأصغر حجماً لا يستطيعون شراء حاجياتهم من المقصف، وذلك حتى ينصرف أصحاب الأجسام الضخمة، وما زالت دورات المياه لا تصلح للاستخدام الآدمي، وأيضاً الأطفال الذين يحضرون المدرسة لأول مرة، يساقون سوقاً إلى طابور الصباح، وهم مرعوبين من تلك الطريقة، فلا يعرفون ماذا يعني طابور الصباح، ويُرعبهم جرس الفسحة المزعج، والبكاء والدموع لا يشفعان لهم، ولا من أحد يكلف نفسه الأخذ بخاطرهم، حتى لو بمجرد كلمة طيبة تُهدِّئ روعهم، فأما إذا أراد أحد الأطفال الخروج من ساحة الفسحة، فإنه يصطدم بذلك الطفل ضخم الجسم، فيدفعه بقوة وينهره لكي يعود داخل القطيع.

إذن؛ هناك أشياء كثيرة فعلاً لم تتغير، ولكن ما المتغيِّر مقارنة مع أيامكم، قال: نظام الاختلاط بنين وبنات حتى الصف الرابع، وإن الكادر النسائي يتولى تدريس الأطفال من المرحلة الأولى حتى الصف الرابع، وهذا تغيُّر محمود لأنَّ النساء أقرب إلى نفسية الأطفال من الرجال، وكذلك وجود نظام الحواسيب "الكمبيوتر والإنترنت"، وتغيرت السبورة والطبشور الأبيض، إلى اللوح الأبيض والأقلام الملونة، ترى هل يكفي هذا التغيير الطفيف ليكون ثماراً لـ48 عاماً من النهضة والحداثة، ولكن ما هي الأهداف المرسومة لهذا التعليم، الذي لا يزال جد تقليديًّا؟! فهل الشهادة الورقية تكفي؟ وهي فعلا طرأ عليها بعض التطوير، فقد كانت تُكتب بخط اليد على ورقة سميكة، وأصبحت تكتب بالحاسب الآلي، وعلى ورقة رقيقة وذات ألوان جميلة.

ترى متى سيكون التدريس يزخر بالأهداف؟ وإن الحياة المدرسية تحاكي الغد القريب، وأن "التربية والتعليم" ليس مجرد اسم لمؤسسة، وإنما عُنوان لمشروع مُتعدد الأهداف والأغراض، وإن المدرسة تمثل مجسمًا واقعيًّا وحقيقيًّا للحياة اليومية، وجسرَ عبور إلى المستقبل، وإنَّ هذه العجينة الطرية المكونة الأطفال، تُمثل كلَّ شرائح الحياة العملية في المستقبل، ولكن الذي نراه هو مُجرَّد استنساخ لأشخاصنا نحن الحاليين، أي أننا مُصرُّون على تعليمهم الفشل تلو الفشل؛ لأننا جيل فاشل مقارنة مع الشعوب الناجحة، والتي تستغل العقل البشري في التصنيع، والإنتاج والاقتصاد والعلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسة، وليس المقصود أن يخرج كل الدارسين وزراء للخارجية أو التجارية والاقتصاد، وإنما سيكون من بينهم بضع أشخاص في هذه الوظائف.. وليس كلهم بطبيعة الحال، ولكن أليس العلم بالشيء أفضل من الجهل به.

إنَّني أرى -وهذا رأي شخصي محصور بي- أنَّ الأطفال الذين في المدارس اليوم، بالإمكان توجيههم من اليوم الأول، وحسب ميولهم الشخصية، وقدراتهم الذهنية والعقلية، ليكونوا تجَّاراً ونجَّارين وصناعيين وميكانيكيين، ومهندسين ومحاسبين ومعلمين وأطباء، ورجال سياسة، وعلماء دين وفقه يستنبطون من القرآن علوم الدنيا والآخرة، وجنود أشاوس ورجال شرطة أمناء، ومحامين ورجال ادعاء عام وقضاة، ومخترعين ورجال علم فضاء، وكل هذه المهن يتم تأسيسها في المدرسة في كافة مراحلها، ولا ننسى تعليمهم آداب الطريق وآداب التعامل مع الآخر، ونظام المرور لأن في ذلك حياة الناس وسلامتهم، وفي الدول المتقدمة يعلمون نظام المرور في الكليات والجامعات، حتى صار وقوع الحوادث شيئاً نادراً عندهم، ولا يمنح الترخيص بتعلم السياقة، إلا إذا نجح الإنسان في تعلم نظام المرور؛ لأنَّ الفشل في أية وظيفة أخرى، لا ينتج عنه خطر على الإنسان؛ وذلك كالخطأ في علم الطب والصيدلة.

... إنَّ المدرسة يجب أن يكون عملها من مُسمَّاها، وليست مجرد أبواب وجدران يحبس فيها الطفل من الصباح إلى الظهيرة، ثم يخرجون بشكل عشوائي لركوب الحافلات، وحتى هذه الحافلات لا تزال عشوائية، فبعضها حسب مواصفات الحافلات المدرسية، وبعضها الآخر مُجرَّد صندوق مستطيل من الحديد، به بعض العجلات ومُحرِّك يجرها، وسائق بين نصف مجنون ومجنون كامل، ففي المدرسة هذه مقصف يمكن للطلاب تعلم التجارة فيه، والمعاملات التجارية والانسانية، ومنه تعلم البيع والشراء، والربح والخسارة، والمنافسة بالجودة والخدمات، وفي المدرسة تعلم الأخلاق في التعامل، وتعلم المحاكمة والمرافعات وكل أمور القضاء، وفي المدرسة تعلم عمل الشرطي والجندي والعامل العادي، وفي المدرسة يتعلم الطفل الحفاظ على النظافة، والحرص على نظافة الألعاب، والاستخدام الأمثل لها، وفي المدرسة يتعلم الحفاظ على مُمتلكات الدولة، وأنها مِلكنا جميعاً، وفي المدرسة يجب أن يُطلب من المراحل المتقدمة كيف يجعلون دورات المياه نظيفة؛ لأنَّ في الكليات العسكرية يقوم الطلاب بكل شؤونهم، ومنها نظافة دورات المياه، والعسكرية أشرف مهنة إنسانية يقوم بها المرء، عندما يضع دمه وروحه فداء للوطن.

إنَّ المدرسة إذا أصبحت تُمثل بيئة مُحببة للطفل، فإنَّ الأسوار التي تحيط بمبنى المدرسة، لن تحتاج إلى رفعها وتعلية جدرانها، فلن يكون هناك تخوف من هروب الطلاب، وسوف ينصرف ذهن الطلاب إلى التعلم والابتكار، والتنافس في الإبداع الفكري، لأن العقل العربي كان من أكثر المبدعين في الأرض، والمبتكرين الأهم في الماضي هم العرب والمسلمون، حتى تدارك الغرب هذه الفجوة وضيَّقها عنده، وجعلها مفرجة وذات اتساع لا مُتناهي في بلاد العرب، مُستخدماً في ذلك وسائل الترغيب والترهيب، ودفع بالعرب في التنافس على حب السلطة والجاه والمال، ووفَّر لهم وسائل الترف وكل احتياجاتهم بالمال البخس، والتدافع في التباهي على ركوب السيارات الذهبية والفضية من صناعته، ونفخ فيه ورفع قدره فدفعه لشراء الأسلحة وليس المصانع، وحرّضهم على التقاتل لديمومة الصناعة عنده، ونسِي بل وتناسى عمداً شيئاً اسمه حقوق الإنسان.

وظلَّ العرب يُطبِّقون فكرة الزاجرة والمنجور؛ فالزاجرة هي إخراج الماء من البئر بطرقة تقليدية، فهناك المنجور الذي يتم وضعه على رأس عمودين متقابلين من الخشب، ودوارة خشبية تركب عند الصدر؛ حيث يفتح فيه الدلو لتفريغ الماء، وتشد بحبلين يُسمَّيان بالرشاء، وخلف الصدر يكون هناك مسار بطول عُمق البئر، يعمل بشكل منحدر ليساعد الدابة المستخدمة في جر الدلو، وبرفقة معاون بشري، مُهمته تركيب "الويج" وهو عمود خشبي منحنٍ؛ فهذا الانحناء يُساعده على بقاء التوازن في حبل "الرشاء" فتظل الطريقة هي نفسها، ولكن الذي يتغيَّر هو الدابة؛ فهناك من يستخدم الثور، وآخر يستخدم الحمار، وثالث يستخدم الجمل، ولكن تظل الكمية المستخرجة من الماء هي نفسها. إذن، لا عجب إذا قارنَّا التعليم في بلاد العُرْب، وطريقة المنجور في استخراج الماء من البئر قديماً، طالما حافظنا على بقاء التعليم لهدف واحد وحيد، وهو "الشهادة" الورقية، وفي نفس الوقت وفَّرنا وسيلة استرزاق بشري من وراء وظيفة عامة... والسلام.