فلذات أكبادنا السائبة

أمل الحرملية


يخطو طلابنا إلى مدارسهم هذه الأيام خطواتهم المتوثبة الصغيرة، حاملين في حقائبهم أحلامهم الكبيرة، وهم يبنون مستقبلهم بعزمٍ وتصميم. وبين هرج الأطفال، ومرجهم، فرحةً بعودتهم لمقاعد الدراسة والتقائهم بأقرانهم، يلتفتون إلى مقاعد أضحت فارغة، وذهبت شخوصها إلى غير رجعة، ما بين غريق، وحريق، أو ضحية حادث مروري، أو سقط سهوا من حسبة أهله، وبقي لساعات محاصرًا داخل سيارة يتوسل الأكسجين فلا يجده، حتى يلوح بأصابعه المرتجفة مودعا، دون أن يشهد أحد مشهد أحلامه، وهي تحزم حقائبها إلى السماء.
فجأة لا تعود الأمور كما كانت أبدا، والبيوت التي لطالما أُريد لها أن تكون المكان الأكثر أمانا في هذا العالم لاحتضان الأطفال وتنشئتهم، تصبح على حين غفلة وإهمال، ساحة خصبة للحوادث المنزلية، بشتى أنواعها، تاركةً ضحاياها من الملائكة الصغار، ما بين إصابة بليغة، أو إعاقة مستديمة، أو جثة هامدة يُهال عليها الثرى بقلوبٍ تتجرع الأسى، وتكابد غصص الندم، ولكن ولات ساعة ندم.
فلا يكاد يمر يوم دون أن نستهل صباحاتنا، أو نستقبل مساءاتنا، بخبر نعي طفل في رقعةٍ جغرافيةٍ تارة قريبة، وتارة بعيدة، فإذا بتفاعلنا مع الخبر المؤلم نذيله بتسليتنا المعتادة التي لا نفقهها حقا: هذا قضاء وقدر، دون الالتفات إلى العوامل التي أودت إلى هذه النتيجة، وكيف أنه بالإمكان تلافي كل هذه النكبات، لو أننا أدركنا حقيقة أن الطفل هو كائن لا يمكنه الاعتماد على نفسه اعتمادًا كليًّا، وأنه لا بد من وجود رقابة دائمة عليه، وأن على والديه وإخوانه تقاسم هذه المسؤولية، حتى يقوى عوده، ويصبح بإمكانه حماية نفسه، والتعامل مع كل خطرٍ وشيكٍ يحدق به.
في منتصف النهارات، والليالي، نشاهد الأطفال بدراجاتهم، أو بألعابهم، يعبرون الشارع جيئة وذهابا وكأنه "حوش بيتهم"، دون وجود شخص راشد واحد لمراقبتهم، والتأكد من سلامتهم، ليلتصق بهم بشكلٍ مغناطيسيٍ محض، مصطلح فلذات الأكباد "السائبة"، بعد أن كنا نطلقها على الحيوانات التي يسرحها أصحابها دون اكتراث، أو على العمالة التي تعمل في أي مكان، وأي زمان، دون حسيب، ولا رقيب.
وفي سيناريو آخر، تكتظ الحدائق بالأطفال مع عاملات منازلهم، فيلهو، ويقفز، ويتنقل الأطفال، بينما تنشغل العاملات ببث همومهن لبعضهن، ومشاركة بعضهن البعض خطة هربٍ ناجحة، تأخذهن إلى عالمٍ لا أطفال مزعجين فيه، ويدر عليهن مالا أكثر. وفي خضم هذا الشغب الطفولي، يتم التحرش بهذا، والاعتداء فعليا على ذاك، وتلقي كم هائل من الألفاظ النابية، والبذيئة، والكثير من الإصابات الطفيفة، التي تنتهي بتوبيخ الأم للعاملة لاحقا، بعد عودتها للمنزل، من "الجيم" أو "الصالون"!
وللتخفيف من عبء مشاكسات الطفل ومطالباته، وبحجة تثقيفه، وانتشاله من الأمية التكنولوجية، يتم تمرير جهاز ذكي إلى كفيه؛ ليجد نفسه مدفوعا دون مكابح إلى مائدة ضخمة، تجر شهيته المحدودة إلى أفقٍ لا محدود، يقابل فيه الوحوش، والمثليين، والمغتصبين، وذوي العاهات النفسية المزمنة، والفارغين من أية قيمة، والمبتزين، ويخرج من هذا كله بنسخة ملطخة بالكثير من السوداوية، والإحساس بانعدام الأمان، واضطراب الرغبات، وتضارب القيم.
لذا؛ علينا جميعا أن نفهم، أن إنجاب الأطفال ليس عملا بطوليا، بل هي وظيفة بيولوجية بحتة تمر بها معظم الكائنات الحية، وأن أدوارنا الوالدية الحقيقية تبدأ بعد زج هذا الطفل إلى هذا العالم، وإقحامه رغما عنه في متاهة كبيرة من الصراخ في وجهه حينا، وضربه حينا آخر، وحرمانه من حقوقه بحجة تجنيبه الدلال الزائد في أحيان أخرى، أو إهمال مراقبته، وتركه دون قلق يلعب لوحده أو مع إخوانه، وجيرانه، متجاهلين حاجته الفطرية، وواجبنا المقدّر في البقاء بالقرب منه؛ ليجد أيادينا ممدودة، وعتبات قلوبنا مشرعة، حين يهرع إلينا مستنجدا ومستعينا.

تعليق عبر الفيس بوك