ظاهرة ترمب ومفهوم الأدب المعاصر


جمال قيسي - بغداد


ربما من يجد أن هناك تناقضاً في العنوان، أو من يحسبه للفت النظر، على طريقة المحاكاة  للخبر الأهم الذي يشغل العالم  ويكون موضع اهتمامهم، ولكنِ سأزيلالغموض، وأوضح ما أرمي إليه.
إن فوز دونالد ترمب رئيساً لأمريكا، هو ظاهرة تأريخية لافتة للانتباه، مع إنها كنتيجة، وتمثل متأخرة، بعض السنين.
رغم إن هذه الظاهرة  سبقها  مؤشر مهم  لكل رواد ومريدي الأدب كان  يجب الانتباه إليها، وهو فوز المؤلف الموسيقي ديلان بجائزة نوبل للآداب، وهو  مؤلف  موسيقي وكاتب شعر غنائي لفن البوب؛ الأب الشرعي لموسيقى الراب (الراب = فن الشارع)، وهذا الفن  قائم على ثلاث محاور هي: (الجنس، المال، المخدرات) وهذه هي هموم الشباب العالمي، فلم يعد الشعر كما نعرفه أو أجناس الأدب الأخرى، موضع اهتمام الجمهور.
وتبدأ قصتنا بالضبط في شهر أب من عام ١٩٩٥م، لماذا هذا التاريخ؟ إنه بالتحديد، قيام بيل غيتس  بطرح برنامج  (ويندوز٩٥) والذي من خلاله أصبح استخدام الحاسوب متاحًا للجميع لتنقرض الآلة الكاتبة، والرسائل البريدية الورقية، والصحافة الورقية، والكتاب المطبوع، طبعا بعضها استغرق بعض الوقت والآخر في طريقه إلى زوال، عزز ذلك الأمر الشبكة العنكبوتية وتحول الواقع المعيش إلى واقع مفرط، وافتراضي، غير أنه أصبح عاملا مؤثرًا، وجديدًا في الحراك  التاريخي، وخير دليل على ذلك  الثورة المصرية، التي أعد لها مجموعة من الشباب  على موقع  التواصل الاجتماعي (الفيس بوك)، وهنا يجب التشديد على قضية في غاية الأهمية ألا وهي قضية الحرية الفردية، والتمثل، فيما سبق كان الفنان يمر عبر لجان اختصاصية ولايستطيع أن يؤدي إلا بعد أن يجتاز مجموعة من الاختبارات، وكذلك الشاعر والأديب والصحفي، فيما أتاحت شبكات التواصل الاجتماعي الآن حرية التعبير لأي شخص بعيداً عن الشروط والمعايير  في كل المجالات ومنها الأدب؛ فلارقابة، ولا لجان فحص إلخ.
وجد الإنسان نفسه في فضاء للحرية، خارج كل الحسابات، أو هكذا يحسب، مقابل كل هذا  تم سحق كل المنظومات القيمية، المتعارف عليها، فإذا كنت تبحث عن جنس، فهو متوفر بدون محددات، أو تقول كلاماً تحسبه شعراً، لاحاجة لك برأي الآخرين، أو تصنع سلاحًا، فالأمر يسير، بدون خوف من الأجهزة الأمنية، وإذا كنتَ تبحث عن كتاب معين، فهناك الآلاف  من المكتبات الرقمية، وهنا يجب التفريق بين الحصول على الأشياء، التي تلبي الرغبات الأولية  وحالة التعبير الشخصية لأن هذه الأخيرة  مجرد حرية افتراضية، مثل ما حدث في مصر، فبعد أن استطاع الشباب إزاحة نظام مبارك، لم  يتمكن القائمون  بالثورة  من استلام السلطة، لأنها جَاءَت من حركة افتراضية.
إن الحصول على السلع والخدمات، مقابل المال، رغم أنه في جميع الأحوال أنت تدفع المال للشركات الرأسمالية، حتى وإن جلست في بيتك، أنت تدفع اشتراك الإنترنت، وهذا بحد ذاته يَصْب في جيوب الشركات الرأسمالية، بالمجمل أنت في عالم اليوم لو عشت على المريخ، بعيداً عن الأرض، ستدفع إلى الرأسمالية مقابل استمرارك في الحياة في هذا العالم الافتراضي، والذي أصبح  واقعاً مفرطاً، من ناحية التعامل معه، وهنا  دخل الأدب في رحلة اغتراب حقيقية وأزمة وجود، إذ لامجال اليوم للاستماع إلى القصيدة الطويلة، أو قراءة رواية بحجم الحرب والسلام، أو قراءة النقد الذي يبالغ في القيم البلاغية، إنما، الوقت يكفي للقصة الومضة، والقصيدة  النانو، وقصيدة النثر، أو الهايكو، إلى آخر الأجناس الأدبية المعاصرة، ولكن إلى أين تسير الأمور؟  بالطبع  هناك حقائق، لابد من الأخذ. بها لفهم إلى أين يسير العالم، وهنا أعود لماركس، وأنا أعرف أن هناك بعض الأصدقاء من يحسبني متحيزاً للماركسية، وهذا فيه من الصواب الكثير، لكنه تحيز عن حكمة، إذ أن ماركس الوحيد الذي انتبه لما يجري في عالم اليوم، ليس من باب النبؤة وإنما من تحليله العلمي الاجتماعي والاقتصادي، لآليات عمل النظام الرأسمالي  وتطوره، سبق وإن أشار إلى فوضى الإنتاج، وهو ما حصل عام ١٩٢٩م (Great Depression)  بالانهيار العظيم، وأكد كذلك على أن المال (النقد)  ليس  وسيلة، بالنسبة للرأسمالية، وإنما هو حقيقة وغاية نهائية من خلال تكريسها كحقيقة، وواقع ونبّه إلى زيادة وسائل التغريب من خلال حرف العمل الحرّ والحقيقي للإنسان، فقد أصبح الانسان بلا حرية، وفُرض عليه ممارسة العمل وفق الحاجة وليس مثلما يحب، أو إمكانياته الحقيقية، وهنا أخيراً جاء دور المثقف ليغرق في الاغتراب، رغم وعيه، وليتحول الأدب إلى محتوى بلا هوية؛ عبارة عن ومضات لاتعني أي شيء ذي قيمة، وتعبير عن حاجيات تافهة، وغرائز بدائية، محطمة كل الأطر التي تراكمت عبر قرون عديدة من النتاج الإنساني؛ إنها فوضى الإنتاج الجديدة  للرأسمالية  التي ستؤدي حتماً إلى ظهور حركات اجتماعية جديدة بمفاهيم لا تفسرها النظريات المتعارف عليها؛ إذ لاتنطبق المعطيات معها.
نحن نشهد اليوم مع ترمب زوال الأدب المتعارف عليه، ليس بسببه وإنما مايمثله كظاهرة إنه أفضل تجسيدًا لما يجري وما تنتجه ثقافة المعلوماتية كمرحلة لبعد (مابعد الحداثة)، لأن السياسة  تمثل  البنية الفوقية للمجتمع، وكل هذا العالم الافتراضي، لابد أن ينهار؛ لأنه  قائم على الافتراض ولكن سرعان ما يقوم مكانه عالم  افتراضي آخر هناك شيء مفقود، إنها الوقائع الحقيقية، ولا نلمس أي قيمة للعمل المادي، إنه اللاشيء، وستسير البشرية بلا إنتاج، إنما الحاجة المادية (السلعة)  هي افتراضية، حتى تنهار العملية الإنتاجية الإنسانية المادية، إنها المسيرة  نحو زيادة الفقر، وقد ورد ذكر ذلك في القرآن في سورة الحج.
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ] هنا الناس: ذوو الأمر في المجتمع من المؤثرين، والأغنياء، وأصحاب السلطة، وربكم (الربّ: المال والثروة وجمعها، أي من  يجعل المال صاحب  السلطان عليه؛ أي بمعنى الاستحواذ على المال  وحرم الآخرين، والزلزلة: الشباب الثائر، وهم من سوف يمسهم الفقر والجوع، وتذهل: تلفظ، أو تبعد، كل مرضعة، وهنا المرضعة ليست المرأة التي ترضع لأنها في اللغة تسمى المرضع، وهنا أراد بها الإمارة أي الدولة، كما ورد في الحديث النبوي (نعمت المرضعة وبئست الفاطمة)، وتضع كل ذات حمل حملها؛ أي إن هناك قيادات سوف تقود هذه الحركة بدعاويها، وسوف يحتمي الأغنياء وذوي السلطان بالعصابات والمرتزقة، ولكنهم سوف ينقلبون عليهم، وهو ما أكدته، ولكن عذاب ربك شديد. أعرف أن هناك من سوف يختلف معي في تفسير السورة، ولكنه يستطيع الرجوع الى لسان العرب في استخراج المعاني
المهم ما يعنينا هنا  هو قضية التمظهر وبالذات (الظاهرة الترامبية= ترامب) وما صراعه الأخير  من خلال إثارة الدعاوي عليه إلا  أحد الأوجه  للنزع الأخير  لإحدى أكبر المؤسسات التي أفرزتها الحداثة وما بعدها. وهي مؤسسة الإعلام؛ من صحافة  وقنوات إخبارية  ووكالات أنباء  وكلنا نعلم كيف لعبت هذه المؤسسة من دور خطير في تشكيل الرأي العام  تحت سطوة الرأسمالية، وهي من العراقة بمكان  حتى سميت السلطة الرابعة للهيمنة وتحت هذا التوصيف  هي غول من المصالح العميقةوالمتجذرة.
 إن فوز ترمب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي هو إيذان بوضع الشاهد على قبر  هذه المؤسسة، أقول حتى لو نجحت هذه الدعاوي ضد ترمب، إلا أن الزمن قد تحوَّلَ مع تحول شروطه التأريخية.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك