الاتساق والانسجام في وصايا قيد الأرض للشاعر العماني سعيد الصقلاوي (1-4)

 

د. انشراح سعدي – الجزائر - أستاذة محاضرة /جامعة الجزائر(2)


   تتناول هذه الدراسة  الموسومة الاتساق والانسجام في وصايا قيد الأرض للشاعر العماني سعيد الصقلاوي عناصر الاتساق الخمسة (الإحالة ،والاستبدال، والحذف، والوصل ،والاتساق المعجمي)التي يحدث من خلالها التّماسك النّصي بترابط العناصر المكونة له ،ترابطا يحيلنا على العلاقات المعنوية القائمة داخل النص و المشكّلة للبنية الكلية له،في حين  تتصل دراسة  الانسجام برصد وسائل الاستمرار الدلالي الموجودة في النّص  من أجل بلوغ المعنى المخبوء وراء الكلمات والجمل التي اختارها النّاص لإيصال رسالته إلى المتلقي.
1- الاتساق:
1-1الإحالة ودورها في اتساق ديوان " وصاياقيد الأرض":
  يرى محمد خطابي أن الباحثين م.أ.ي هاليدي ورقية حسن  يستعملان مصطلح  الإحالة استعمالا خاصا، وهو أن العناصر المحلية كيفما كان نوعها لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل،إذ لابد من العودة إلىما تشير إليه من أجل تأويلها. وتتوفر كل لغة طبيعية  على عناصر  تملك خاصية الإحالة  وهي حسب الباحثين : الضمائر وأسماء الإشارة وأدوات المقارنة.
   وتنقسم الإحالة إلى نوعين الإحالة المقامية وهي إحالة إلى خارج الّنص والإحالة النّصية و هي إحالة إلى داخله وتتفرع  إلى قبلية (سابق) وبعدية (لاحق)، وتعتبر الإحالة النصية الأكثر ورودا في النّصوص الأدبية إذ تسهم في تماسكها، لذا أولاها هاليدي ورقية حسن اهتماما كبيرا في كتابهما الاتساق في اللغة الإنجليزية الصادر 1976، ورغم ذلك سنقف عند الإحالة المقامية أوّلا والتي بدت واضحة في ديوان وصايا قيد الأرض لسعيد الصقلاوي.
1- الإحالة المقامية : وهي الألفاظ التي بمقتضاها تحيل اللّفظة المستعملة إلى الشيء الموجود فيالخارج حيث تسهم في خلق النّص باعتبارها  تربط اللّغة بسياق المقام،وتعود الإحالات المقامية في الدّيوان المدروس في معظمها على الشاعر سعيد الصقلاوي باعتباره مرسلا، فإذا تأملنا قصيدته  الموسومة عتبات الصّباح  نجد ضمير المتكلم المتصل (ي) ورد سبع مرات في النص،وهويمثل إحالة مقامية  تحيل إلى الشاعر، كما نجد ضمير المتكلم (أنا) والذي جاء مستترا ورد مرتين في العنصرين الاتساقين (أغني-أنسى)
على عتبات الصّباح
أغنّي
وانسى جراحي
فتزكو زهور الّزّمان
بروضة روحي
وراحي
يعمر قلبي يقين
ويوقد عزمي
طماحي    
ضمت القصيدة على قصرها تسع إحالات مقامية سبع  ضمائر ملكية (أغني-جراحي-روحي-راحي-قلبي-عزمي طماحي)وضميرين مستترتين، وتعد الضمائر أقوى العناصر المشكلة للإحالة المقامية ، فعتبات الصباح تعبر عن حالة الشاعر النفسية الذي يعلمنا أنه سيغني وينسى جراحه ويعمر قلبه ويوقد عزمه طماحه، ونشير هنا إلى أن الشاعر قد أخرج القصيدة القصيرة التي ارتبطت عادة بالغنائية إلى قالب سردي درامي، فالإيجاز والتكثيف في هذا النص يخاطب القلب والعقل فالشاعر المجروح يفتح أفقا للأمل  بعزم ويقين.
افتتح الشاعر نصا آخر عنونه "أدن منّي" بإحالة  مقامية من خلال المركب الفعلي " أدنو" ضميره  المستتر أنا وبنى النّص على ضميرين وجوديين أنا / انت  :(أدنو-أنا /تسمع- أنت )،(أدن أنت /أسمع أنا) ،(أجمع أنت/ أجمع أنا) .
يقول في قصيدته التي يخاطب فيها الحبيب ويحاوره دون تصريح باسمه أو بوصفه
أدنو منك كي
تسمع نبضي
فادن مني كي
أسمع نبضك
واجمع بعضي
في كفيك أجمع في
كفي بعضك
واجعلني عينيك لكي لا  
أبصر إلا نفسك     
إنّ الاستراتيجية التلميحية التي اتخذها الشاعر سبيلا لمخاطبة الحبيب اعتمدت على  ثنائية الأنا والآخر المتمثل في الضمير أنت أي الحبيب، فكان التلميح هنا أقوى من التصريح.
ولأنّ الديوان مليء بالقصائد الوجدانية التي ترتبط بقائلها الذي يعد الطّرف الأساسي في العملية التواصلية  جاءت قصيدة إليك تسعى جفونيمليئة بالإحالات المقامية
إذا جزيت فؤادي
بدمعة واغتراب
إليك تسعى جفوني
برغم كل الصعاب
ولست أخشى  كلاما
ولست فيك أحابي
فأنت نوري وظلي
وحضرتي وغيابي
تسامحي وعتابي
ومأمني وارتيابي
ولذة لشرابي      
نجد في سطر إليك تسعى جفوني الذي جعله عنوانا للقصيدة( كاف الخطاب هنا)يعود على  الحبيب الذي لم يشر له لا بوصف ولا باسم وتقدير الكلام: إليك-أنت- تسعى جفوني ، فيزاوج بين الإحالة النصية والإحالة المقامية التي سرعان ما يعودلها في الأسماء(جفوني، نوري، ظلي، عتابي،مأمني...) والأفعال(أخشى،أحابي) ، والتي تعود على الضمير المستتر (أنا).
وفي مقام آخر افتتح الشاعر قصيدته"نحن هذا الوطن" بإحالة مقامية تمتاز بالغموض مقارنة بسابقاتها إذ يمكننا أن نحمّل  ضمير المتكلم (نحن) بعدا إنسانيا  فالوطن في هذا النص الشعري قد يكون عمان كما قد يكون الوطن العربي الكبير أو هذه الكرة الأرضية التي نحيا  فيها ،فمن هم الذين جعلهم الصقلاوي في جملة واحد وطنا؟ من هم الذين لا ينطفئون في المحن؟
نحن هذا الوطن
في روابي الزمن
ساطعون   وما
ننطفي في المحن
قد سمونا هدى

مرتقانا المنى
وجمال الفطن
ومن هم أصحاب القلوب التي بها نور وفكر وفن ؟ في إشارة للتسامح وقبول الآخر  وسمو النّفس بارتفاعها وارتقائها للكمال والجمال:
نحن قلب به
نور فكر وفن
جفننا ملؤه
ألسنا لا الوسن
زندنا وقده
عزمه لا الوهن
مجدنا والعلا
كلفعل حسن
نحنهذا الوطن
سرنا والعلن   
استعمل سعيد الصقلاوي  في هذه القصيدة ضمير المتكلم (نحن ) ثلاث مرات ، والضمير( نا)ثمان مرات ، ووار الجماعة  مرة واحدة (ساطعون)، فضميران وواو الجماعة تحيل على الشاعر ومن معه، وقد يكون من معه في بعد وطنيأهل عمان وفي بعد قومي العرب وفي بعد انساني أهل المعمورة .
2- الإحالة النصية : تتمثل في إحالة لفظة على لفظة أخرى سابقة أو لا حقة داخل  النّص ، ونجد في وصايا قيد الأرض العديد من هذه الإحالات النّصية، ففي نص سعيد الصقلاوي الموسوم باب الليل جاءت الإحالة إحالة نصية بعدية، وهي التي تعود على عنصر إشاري يذكر بعدها ،يقول محمد خطابي في كتابه لسانيات النّص عن الإحالة النصية البعدية "هي وجود عنصر مفترض ينبغي أن يستجاب له، وكذا وجوب التّعرف على الشيء المحال إليه في مكان ما "  ، فحين يبدأ الشاعر نصّه قائلا:
مشعشع
خلف  باب الليل يعتصم
هذا الذي
في هواه تلهث الأمم
هذا الذي
وباسمه تسفك الأخلاق والقيم    
يوظف الإشارة الانتقائية ( هذا) ليجعل القارئ ينتظر هذا المشعشع المعتصم خلف الباب ،الذي اكتفى بوصفه دون أن يفصح عنه مستغلا ما يجوز للشاعر من  تجاوز للمألوف وانزياح عن معيارية اللّغة العادية ،فجاءت بنية هذه القصيدة مراوغة و غير مستقرة ومتعددة الدلالات فكم من شخص تسفك باسمه الأخلاق والقيم ؟وكيف لنا أن نحدّد المقصود بالذات؟ لعل الغرض من هذا الغموض هو تشويق القارئ  للبحث عن المحال إليه من جهة، وإبراز بنية النّص المتماسكة من جهة أخرى ،فالصفات التي ارتبطت بالمحال إليه (باسمه تغتال أمنيه، تسفك أخلاق، تشنق الأزهار، يستباح السناء، فلا ضمير، ولاحسنى ، يقهر الحق...)إحالات ترادفيه تنسج جمالية النّص وتماسكه. جاءت الإحالة النّصية البعدية قريبة المدى، إذ عرّفنا بالمحال  إليه مباشرة حين قال:
وباسمه
تشنق الأزهار يانعة
ويستباح السّناء الطهر
والحرم              
لنعرف في هذا  المقام أن الحديث يخص الأقصى  المستباح من طرف اليهود، وبعد أن يضع الشاعر القارئ في الّسياق المراد يستعمل الضّمائر التي تعد من أهم وسائل الاتساق الإحالية إذ يقول :
وباسمه
تصلب الأحلام نابضة
وينخر الجوع.
في الشريان والسّقم
كم أشعل الحزن
في الأفراح فاحترقت
تحت القنابل
لا ذنب ولا جرم
فلا ضمير
ولا حسنى
ولا ندم
كأنما الخلق
في قانونه عدم
يحلّ كل حرام غاشم
شره ويقهر الحق
وهو الراسخ العلم
فتأتي الإحالات  بعد المحال إليه ( مستبيح الحرم / اليهود) إحالات نصية قبلية  مرتبطة به :(باسمه، قانونه،  ينخر/هو، يحل /هو ،يقهر/هو ...)، وأتت الإحالات النّصية القبلية لتؤكد أن المحال إليه واحدعلى اختلاف  العنصر المحيل ضميرا مستترا (هو) أو متصلا (هاء) ويعود على موضوع الخطاب (مستبيح الحرم)، وهنا إحالة دلالية تاريخية تسدعيها هذه القصيدة وتضع القارئ العربي في سياق لا يمكن أن يخطئه هو القدس المغتصبة .

 

تعليق عبر الفيس بوك