فلسطين في أدب سميرة عزام (4 - 5)


أ.د/ يوسف حطيني – أديب وناقد أكاديمي فلسطيني – جامعة الإمارات


رابعاً – المقاومة :
و بعد أن أدرك الفلسطينيون أن الدموع التي يذرفونها ، و اللعنات التي يصبونها على أعدائهم لن تشفي الجراح التي خلفتها النكبة ، انتقلوا إلى المقاومة ، فليس ثمة إلا الحرب ، من أجل سلام كريم لا يقرّ به الأعداء .
و لعل قص ) خبز الفداء) (69) هي أنصع مثال على تحول الصرخة الفرديـة التي كانت صرخة في وادٍ أصم ، إلى فعل جماعي يقوم به الفلسطينيون تجاه وطنهم ، ينأى بكينونتهم عن باب الذلّ و الاستجداء . إنها قصة رامز الذي تطوع حارساً على المستشفى التي ملأها الصهاينة بجرحى حقدهم الأبرياء ، و من ثم مدرباً للأجيال التي ستهب للدفاع عن عروبة الوطن إنها قصة سعاد أيضاً ، تلك التي تطوعت ممرضة بالمشفى ذاته ، ثم عملت على إيصال الزاد للمقاتلين في أشد الظروف خطورةً . و في المشفى يتعرف البطلان إلى بعضهما ، يحبّان بعضهما فيما بعد ، يجمعهما حب صغير ، و حب كبير ...و ذات مرة حين كانت سعاد في طريقها إلى المقاتلين ، أصابتها رصاصـة غادرة ، و لكنها استطاعت أن تصل إليهم ، غير أن الطعام الذي تحمله يختلط بدمها و تموت،و يكون على رامز أن يقرر : أن يمنع رفاقه أن يأكلوا هذا الأدام التعس ،أو أن يدوس على قلبه و يتركهم يأكلون ،حتى الرفاق أنفسهم لا يستطيعون هضم هذه الوجبة الأليمة .
و تنتهـي القصة حين يسقط رامز مغشياً عليه بعد أن يقول لرفاقه “ كلوا …. إن سعاد لا ترضى لنا أن نموت جوعاً” (70) .
إن بطل القصة رامز شخصية واضحة متكاملة فهو يعرف لماذا يحارب ، لقد تعرض ربيع وطنه لطعنةٍ غادرة لا ترحم : “ و في ربيعه ذاك عرف شيئين : الحب و الحرب .. و كان الأول يعطي معنىً للثاني . فالحرب ليست عدواً يقتل لشهوةٍ ، إنما هي حياة للأرض التي يحب .. و الفتاة التي يحب “ (71) .
وحين اغتيلت الأرض و الفتاة معاً كان على البطل أن يقدم تضحية ، للأمل القادم أن يقدم الخبز المعمد بالدم ، في صورة مسيحية واضحة ، لرفاقه ، حتى يأخذوا من سعاد شيئاً يجعلهم أشداء على أعداءهم ؛ لذلك كانت تضحية رامز مزدوجة ، إذ إنها تضحية شخصية و وطنية في آن واحد ، إن سعاد تضحي بنفسها ، بينما يضحي رامز بدمها و بقلبـه ، ليعيدا معاً صورة المسيح التي يكللها رامز بقوله (كلوا إن سعاد لا ترضى لنا أن نموت جوعاً) (72)
إن البطاقة السحرية التي وضعتها سعاد في جيب قميص صوفي نسجته ليكون من نصيب بطـل ، ثم كان بعد ذلك من نصيب رامز ، أهابت به “ أن يكون بطلاً حقاً قبل أن يعرف سعاد ، ثم كان بعد ذلك الحب بطلاً مزدوجاً " (73) .
و إن جزءاً من نجاح القصة مردّه إلى تقديم رامز ، شخصية إنسانية ذات ملامح واضحة فهـو ليس بطلاً طوطمياً ، إذ إنه يتمنى في بعض الأحيان “ أن ينفضّ إخوانه قليلاً ليعود إنساناً يخلع قناع الصلابة و يبكي “ (74) . و هو أيضاً إنسان يحب ، يؤرقه ما يؤرق العشاق ، بعيداً عن كونه مدرباً " و التفت إلى نفسه في المرآة المعلقة على الحائط ، و تحسس ذراعيه المفتولتين و ضحك على سخفه و هو يتأمل نفسه .. و لكن أي ضير في أن يكون سخيفاً فيرفع مثلاً القميص و يشمه طويلاً و يقبله أيضاً " (75) .
غير أن حب الوطن ينتصر لديه على حبه الصغير الذي بدا أكثر رومانسية عن حب سعـاد التي كان حبها لرامز أكثر وضوحاً من الناحية النظرية و العملية على حدّ سـواء ، فهي تتشبث بجذورها .. بأرضها ، على الرغم من أن أخاها يضربها ، حيث لم تجد إلا الفرار منه ، إنها ترفض أن تغادر حيفا مع من يغادرون ، لذلك يسألها رامز :
“هل فعلت ذلك بسببي ؟؟ “
وانفجرت في وجهه :
-” لا ليس ..صحيح أنني أحبك .. و لكنك لست كل شيء “ (76) .و في حوار آخر بين سعاد و رامز ، قبل أن يتعرف إلى اسمها في المستشفى ، يسألها عن مهنة التمريض الصعبة التي تمارسها في أحلك الظروف ، إذ تدور بين المرضى تلبي أجراساً تقرع في كل الغرف :
“ألا تجدين المهمة شاقة عليك ؟
و في حدة لم يتوقعها ردت عليه :
هل تجدني أضعف من الواجب “ (77) .
إن هذا الوضوح في أفكارها كان يراه رامز ، وفقاً لرؤيته الأقرب إلى الرومانسية ،في وجـهها في عينيها اللتين رأى فيها " بريقاً يعكس إرادة لاتحدَّ "( 78 ) . و يأتي التطبيق العملي للقناعات فتظهر سعاد أكثر شجاعة وأكثر تضحية بما يتناسب مع الإطار النظري الذي وضعت نفسها فيه ، الأمر الذي جعل " شخصيتها و اهتمامها الأول تجاه وطنها يخضعان العلاقة بينهما ليجعلاها علاقة زمالة أكثر منها رابطاً تقليدياً غير متكافئ بين شاب وفتاة"( 79 ) . ولعل الغريب أن يستعجل الناقد يوسف اليوسف الحكم على شخصية الفلسطيني في هذه القصة بأنها شخصية مهزومة ( 80 ) ، فهذا الحكم لا يصدق حتى على شخصية رامز التي شهدت تراجعاً نظرياً حين يبدي خوفاً مبرراً على حبيبته من الخطر الذي تعرض نفسها له من جراء إيصالها الزاد للمقاتلين لأنه من الناحية العملية منتصر بتضحيته ، فهناك شيء من سعاد ، كما يرى هو ، سيستقر في داخله شيء من البطولة التي لاتنقصه ، ليزداد انتصاراً على نفسه ، وعلى أي خوف محتمل في ظل واقع يصدم رومانسيته .
في قصة " في الطريق إلى برك سليمان " ( 81 ) ، ثمة إشارات إلى المقاومة ، ولكن السلبية التي طغت على القصة ، لا تجعل هذه الإشارات ترقى إلى القصة المقاومة ، وإن كنا لا نستطيع إغفالها فحسن كان ، مثل رامز ، يعرف لماذا يحارب ، وإن كان لم يحارب خلال القصة لأسباب تكاد تكون موضوعية ، إنه يحارب من أجل السلام ، ولكن لو جاءت الذخيرة :
“ ولو جاءت الذخيرة لانتصب مارد على كل سطح من رفاقه شباب الحرس “ (82)
" وشـق عليه أن تبكي سعاد . . ولما نظر إليها حانقاً لم تقل له أكثر من كلمتين " وطفلنا يا حسن " ؟ . . لعيني عمر كان يحارب ، لعيني جيل من رفاق عمر " ( 83 ) .
خامساً ـ الأمـل :
ومن الألم إلى المقاومة إلى الأمل تابعت سميرة عزام مسيرة الدرب الطويل الذي يدرك دور الأدب ، فأضاءت الطريق وألهبت الحماس ، ودعت إلى المقاومة ، ورسمت أيضاً فجر الأمل الذي توزع نوره على كثير من قصصها ، ولعل الأمل هو الظاهرة التي اختلطت ببكاء المشردين وصياح الغاضبين ورصاص المقاومة إذ أنه جمع بين هؤلاء جميعاً وأطل من وسطهم .
في قصة " زغاريد "( 84 ) ثمة أمل وسط الدموع والكآبة التي تسيطر على الجو ، فنهاية القصة المأساوية تشي بأمل وتشي بأن الناس ما زالوا قادرين على تصور الفرح ، بل الزغردة له ، وإن كان ذلك الفرح مختلطاً بالدموع على الرغم من كل الجراح التي حملتها أرواحهم .
فسلمـى الصواف بطلة القصة تحاول أن تكمل حلمها وأملها من خلال الأطفال :
“ واقتربت تشعل شموعهم ولكنهم لم يتحركوا كانوا يحدقون إليها بعيون غريبة ، وهي تدور بينهم تمسح دموعها بكّم ثوبها ، وتهز صمت الحي بزغاريدها المخنوقة “ ( 85 ) .
في قصة " عام آخر " (86 ) ، قصة كل من الانشطار الروحي الجسدي اللذين عانى منهما الفلسطينيون بفعل النكبة ، ينتصب الأمل من خلال الإصرار على العودة عبر بوابة مندلبوم الضيقة ، فالعجوز التي تقابل الرجل الناصري الذي جاء يخبرها أن ماري لن تجيء بسبب مرض زوجها تقول له :
“وقل لـها على لسـاني بعد السـلام إنني إذا عشـت عاماً آخر فسآتي إليها زاحفةً على قدمي “ ( 87 ) . وهذه الصورة تتطور بتطور فكر سميرة عزام إذ تصبح أرقى في الوجدانيات الفلسطينية حين تتحول إرادة الكاتبة من الإصرار على اللقاء عبر بوابة مندلبوم ، كل عام ، إلى حلم كبير في العودة :
“ مندلبوم . . مندلبوم . .
أيتها البوابة التي تأكل أسلاكها عيوننا
لقد قررنا ألا تظلي وحدك بوابة اللقاء وعزمنا أن نجعل كل حدودنا بوابات
ولقد قلنا كلمتنا . . فماذا تقولين ؟” ( 88 ) .
في قصة " في الطريق إلى برك سليمان " ( 89 ) يولد الأمل وسط النكبة في حلم الطفل الصغير ، وفي غد الشجرة ، وفي روح حسن الحاقدة التي يتسرب منها الأمل ، فحين يمضي حسن إلى سرير عمر ويحمله تصفه الكاتبة بقولها : “ كان نائماً . . ولعله كان يحلم بيوم هنيء تشرق شمسه على رجاء “ ( 90 )
والكاتبة حين تتذكر شجرة اللوز فإنما ترمز إلى الحياة المستمرة التي لن ينهيها السفاح كما يشاء ، تقول سميرة : “ شجرة اللوز غرسها يوم ولد عمر . . وكبرت الغرسة واخضرت وكان يحمل ابنه ويوقفه بقربها ويقول دعنا نقس أيكما صار أطول أنت أم اللـوزة “ ( 91 ) . ولا شك أن الإشارة إلى الشجرة ، وإلى الطبيعة التي هي رمز التجدد ، يدل على الأمل بالحياة المستمرة المتجددة ، فإذا مات عمر فإن شجرة اللوز لم تمت ، ولعل مزج صورتهما معاً يؤكد أن عمر غير قادر على التجدد من خلال جيل رفاقه ، الجيل الذي وُلِد مشرداً ، أو عاش طفولته كذلك . . وفي أشد لحظات الموت حلكة نجد حسن يبحث ، رمزياً ، عن الأمل و الكاتبة تبحث عن الطبيعة كي تبثها آلامه وآماله :
“ ولما غطاه بالتراب حفنة إثر حفنة ، يحملها بيديه ، وقف وهزَّ الشجرة ففرشت له القبر بنجيماتها البيضاء “ ( 92 ) .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش:
(69) عزام ، سميرة : و قصص أخرى ص ص 73-93.
(70) المصدر نفسه  ، ص 93.
(71) نفسه ، ص 83 .
(72) نفسه ، ص 93.
(73) النص ، د.عزة : خبز الفداء، مجلة الآداب ، بيروت ، شباط ، 1960 ، ص 68.
(74) عزام ، سميرة : و قصص أخرى ، ص 75 .
(75) المصدر نفسه ، ص 81.
( 76 ) المصدر نفسه  ، ص ص85 – 86 .
( 77 ) نفسه ، ص 77 .
(78 ) نفسه ، ص 79 .
(79) Piselle ، Kathyana : Samera azzam : outhor ‘s works and vision ، p . 98
 (80) اليوسف ، يوسف سامي : الشخصية والقيمة والأسلوب . . . ص 65 ( 81 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ، ص ص 22 – 23 .
( 82 )  المصدر نفسه  ، ص 27.
( 83 ) نفسه ، ص 27.
( 84 ) عزام سميرة : الظل الكبير ، ص ص 47 – 54 .
( 85 ) المصدر نفسه ، ص 54 .
( 86 ) نفسه ، ص ص 67 – 77 .
( 87 ) نفسه ، ص 77 .
( 88 ) عزام ، سميرة : العيد من النافذة الغربية ،  111 وهي مكررة أيضاً ص 142 .
( 89 ) وقصص أخرى ، ص 22 – 32 .
( 90 ) المصدر نفسه ، ص 28 .
( 91 ) المصدر نفسه ، ص 29 .
( 92 ) نفسه ، ص 29  .

 

تعليق عبر الفيس بوك