فلسطين في أدب سميرة عزام (3 - 5)


أ.د/ يوسف حطيني – أديب وناقد أكاديمي فلسطيني – جامعة الإمارات


ثالثاً – سورة الغضب:
وقد انتقلت سميرة عزام ، ومعها الأدب الفلسطيني ، انتقالاً فذاً من تذكر الماضي ، وتصوير مآسي النكبة إلى الغضب الذي سيكون بداية المقاومة . إن هذا الغضب ليس عقيماً ذلك أنه كان مقدمة لما هو أكثر جدوى كما سنرى فيما بعد .
لقد غضبت سميرة عزام ودمرت الحرب براءة روحها ، فغدا الحب الذي تحمله في قلبها حقداً ينصب على مَن جرَّعها كأس الهزيمة المر . لذلك كانت شخصيات قصصها الفلسطينية ، في تلك الفترة ، تمتح من البئر ذاته ، وثمة ثلاث قصص ، تنحو فيها الكاتبة هذا المنـحى ،وهذه القصص هي " في الطريق إلى برك سليمان " (43)و " لأنه يحبهم " (44) و"فلسطيني" (45) ففي قصة في الطريق إلى برك سليمان (46) يحمل حسن طفله الصغير عمر ، ويخرج به من جحيم قرية ( بتّير ) التي يدكها اليهود بأسلحتهم الثقيلة إلى برك سليمان ، مصطحباً معه زوجته ، وهزيمته التي يحاول تسويغها بأن الفلسطينين لا يملكون أسلحة لهذه المواجهة :
" وأحس (حسن) بأن رشاشه الفارغ ، خشبته العاجزة هي المسؤولة عن رجولته المهينة وأنه بدون ( * ) رصاصها سيموت في بيته ميتة فأر " ( 47 ) .
وفي طريق الهروب ، طريق الرجولة المهينة تستقر رصاصة في جسد عمر الغض ، وحين يضعه حسن في التراب يحس أن الحب الذي كان يسبغه على زوجته وابنه لا يكفي للحياة ، وأن عليه أن يحقد :
" ولما غطاه بالتراب ، حفنة إثر حفنة ، يحملها بيديه ، وقف وهزَّ الشجرة ففرشت له القبر بنجيماتـها البيضاء . ولم يقرأ صلاة ما ، فقد أخرسه الحقد"( 48 ) ، إنه الحقد الطارئ الذي تسلل إلى قلب الفلسطيني تحت ضغط الهزيمة ، إذ لم يبق أمامه خيار ، وقد فقد أسلحته كلها : بندقيته التي صارت خشبة ، بيته وأرضه وابنه ، وروحه أيضاً .
وثمة مثال آخر على الحقد الطارئ في قصة " لأنه يحبهم " ( 49 ) ، وهي تسير بالإضافة إلى خطها الرئيسـي ، وفق ثلاثة خطوط متوازية أخرى ، يحكي البطل فيها قصة صديقه وصفي الذي اتهم بسرقة أحد مراكز التوزيع لوكالة الغوث ، ويحاول تسويغ تصرفات صديقه من خلال ثلاث قصص يرويها عن المجرم الذي حولته النكبة إلى جاسوس علـى أبناء مخيمه ، وعن البغي التي لم يترك لها استشهاد أخيها وموت أمها إلا البغاء . وهذه المسوغات تجعل الراوي / البطل يدور في بوتقة الحقد نفسها ، ليقوم بعد ذلك بفعلٍ ثوري يمكن أن يكون إرهاصاً بالمقاومة ، ودعوة للتحول من الفعل الفردي إلى الفعـل الجماعـي ، إذ يتسلل في الليل إلى مركز التوزيع ، ويبقر بطون أكياس الذل / أكياس الفـول والطحين والتمر والزبيب ، ويشعل فيها النار . وهو مقتنع أن حقده هذا يرفعه عن اللص والمجرم والجاسوس والبغي ، لأنه رفض أن يأكلها ، وأن يجعل قومه يأكلونها ، ومقتنع أيضاً أن فعلته هذه التي ستحرم قومه من لقمة الذل ، لم يقم بها إلا لأنه يحبهم .
إنها قصة الفلسطيني الذي يراه الناس إمكانية لص ، لنستمع إلى المحقق الذي حقق مع الراوي بخصوص السرقة التي اتُهم بها صديقه وصفي ، يطلق حكمته الأجنبية الغريبة :
" في مثل ظروفكم يا صاحبي لا يدري المرء في أية لحظة يمكن أن يكون لصاً " ( 50 ) لقد أدرك الراوي أن المحقق ـ إنما هو ظهير للمجرم الذي سلم وطنه للغزاة القادمين من كل مكان لذلك رفض أن يكون حساب وصفي على يد الجلاد ، فالجلاد لا يمكن أن يكون قاضياً ، يقول في نفسه : " ولم تكن معي حين كنا نجمع التبرعات لمجلة تحمل اسم وطننا ، لا ..لا تنتظر مني أن أكون أميناً ، فأقول كلاماً من هذا القبيل ، فلن أحبك أو أحب الحقيقة بقدر ما أحب وصفي ( . . . ) حساب وصفي لن يكون على يديك . . سيكون بيني وبينه . . وأما أنت فليس بوسعي إلا أن أكون مدافعاً أمامك " ( 51 ) .
إن الكاتبة في هذه القصة تستثير التعاطف مع الفلسطيني الذي حولته ظروفه إلى مشروع إنسان خاطـئ ، فلا يبقى في نظر أحد إنساناً سوياً ، فإذا لم يكن لصّاً فهو إمكانية لص ، وإذا لم يكن مجرماً فهو إمكانية مجرم ، ولعل من الغرابة أن نقرأ للدكتور هاشم ياغي في تعليقه على القصة قوله : " ومع موافقتنا التامة على أن الظروف التي تلعب دوراً كبيراً في دفع الناس إلى ألوان سلوكهم فإن هذا التقرير ( القصة ) لم يستطع أن يبرز لِمَ كان وصفي بالذات من بين هؤلاء اللاجئين لصّاً ، مع أن الذي هب لحرق مخزن المؤن – رمز الظروف التعسة – هو صديقه الذي لم يصبح لصاً مثله ، لم يبين التقرير كذلك لمَ كان فياض الحاج علي مجرماً ،ولمَ كانت أخت أحمد مدرب الحرس ، بغياً ولمَ كان أبو سليم وغداً ..." ( 52 )
ويسوق واصف أبو الشباب اتهاماً مشابهاً ضد الكاتبة حين يقول في أثناء تعليقه على القصة ذاتها : " والكاتبة لا تعطينا مبرراً واضحاً عن أسباب السرقة ولا عن الدوافع التي أجبرت اللص كي يسرق " ( 53 ) ، ولكنه ، خلافاً للدكتور ياغي ، يجد تبريراً للمجرم والبغي في ثنايا القصة ( 54 ) .
فلـو تفحصنا القصة لرأينا هؤلاء – اللص والمجرم والبغي – يحاولون " أن ينتحلوا لأنفسهم هوية ما تميزهم عن القطيع " ( 55 ) ، وكانت هذه الهوية ضمن ظروفهم وكانت خطوتهم مبررة ، فالراوي الذي اتُهم بأن إحراقه مركز التوزيع غير مبرر ، إنما وضعت له الكاتبة القصة كلها لتبرير عمله ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ وقد أفردت المؤلفة ، تصريحاً لا تلميحاً ، لتبرير ذلك ثلاث صفحات ( 56 ) ،ففياض الحاج علي قتل زوجته على باب مركز التوزيع لأنها لم تشتر له بثمن ( الإعاشة ) مشروبـاً ينسى به همومه .
فياض هذا لم يكن مجرماً :
“ كان مزارعاً طيباً ، ولكنه فقد الكرامة حين فقد الأرض . هكذا قال لي أحد شيوخ المخيم ، وحدثني كيف كان فياض مثال الدماثة ، وكيف نحر أبوه خمسة خراف حين زوجه ابنة عمه التي يحبها “ (57) . وأبو سليم ، جاسوس المخيم ، لم يكن ليسجل على اللاجئين تحركاتهم ، ولم يكن ليبلغ عن الموتى لتبادر الوكالة إلى قطع مساعداتهم الغذائية ، لولا أنه فقد كرامته ، حين فقد وضعه الاجتماعي السابق ، وأن كان هذا التبرير ن غير كاف وغير مقنع ، من الناحية الوطنية ، لتحويل الفلسطينيين الذين فقدوا أوضاعهم الاجتماعية إلى جواسيس .
وأما البغي فإن ظروفها الشخصية ، وهي تتمثل في موت أمها بعد استشهاد أخيها ، قد دفعتها دفعاً إلى طريق البغاء ، وإذا كانت الكاتبة قد نجحت في استثارة شفقة القارئ على مصير الفتاة المحزن إلا أن هذه الظروف لا ينبغي أن تقود شقيقات آلاف الشهداء إلى الطريق ذاته ، فهذا الأمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية،على الرغم من وطأة ظروف التشريد التي عاشها الفلسطينيون .
نلاحظ إذاً أن سميرة حاولت تبريد سقوط هؤلاء ، ونجحت في ذلك من الناحية الفنية ، وثمة ميزة أخرى للقصة ذلك أن سميرة انتقلت ، من خلالها من الفلسطيني الذي يقتل أخاه الفلسطيني من أجل لقمة الذل ، على نحو ما نرى عند غسان كنفاني (58) ، إلى الفلسطيني الذي يحرق هذه اللقمة حفاظاً على كرامته .
وثمـة مثال آخر على سورة الغضب الفلسطيني الناجمة عن ظروف التشرد "فلسطيني"(59) تحكي قصة أحد الفلسطينيين المدانين بفلسطينيتهم : بقال فلسطيني يحاول تبديل هويته ، فيلجأ إلى تزويرها بهوية أخرى لبنانية ، تخلصاً من تبعة جنسية الأصلية ، ولكن تغيير هذه البطاقة لا يقدم ، ولا يؤخر في وضعه السابق فهو ، وإن كان يحمل الهوية المزورة ، لا يساوي في نظر الناس أكثر من ( فلسطيني ) . في نهاية القصة تخاطب امرأة من الطابق الثاني صبي الكراج المواجه لدكان البقالة بعد أن يرفض الفلسطيني الاستجابة لها : “ وينك يا ولد ، قل “ للفلسطيني “ أن يضع لي في السلة زجاجة كولا .. “ (60) .
عندها يدرك الفلسطيني ان الحل لا يكون بتبديل الهوية ، وإنما بتغير نمط حياته ، حتى يفرض لهويته احتراماً ، ولنفسه وجوداً : “وأحس الفلسطيني في وقفته المرتعشة خلـف الطاولة بالصوت الممطوط ينفذ من جيب سترته إلى جيبه الداخلي ، فيحيل البطاقة إلى مزق صغيرة تخشخش في جيبه ، في غير عنفوان !” (61) .
إن هـذه القصة تمثل ، فيما يرى يوسف اليوسف ، الإنسان الفلسطيني في برهة سقوطه “ أو حين يخور فيحاول أن يتملص من مسؤوليته تجاه الشعور الجمعي “ (62) .
غير أن الاتهام الذي يسوقه الناقد ضد الفلسطيني بأنه (رضوخي رعديد) (63) في هذه القصة ، هو اتهام مبالغ فيه ، ذلك أن هاتين الصفتين اللتين تنسحبان على معظم أجزاء القصة ، تغادرانها لتحول البطل إلى عكس اتجاهه الرضوخي صحيح أن استعادة الاسم لا يتحقق بإجراء إداري وإنما بفعل تاريخي (64) .ولكن تمزيق الهوية المزورة هو بداية الفعل،لأنه دليل ، ولو نظري على تمسك الفلسطيني بهويته الشخصية ، وبالتالي بهويته الوطنية .وثمة إشارات أخرى في قصص متفرقة ،يغدو فيها الحقد والغضب أقل بروزاً ،حيث لا يصبغان تلك القصص بصبغتهما ومن هذه القصص قصة (زغاريد) (65) التي يحقد فيها الفلسطيني ، لا على عدوه المباشر فحسب ،بل علىكل شيء حوله ،فبطلة القصة أم جميل ، تحقد حقداً ساذجاً على أم عروسة ابنها البعيد على الرغم من أنها – أي أم العروسة – لا علاقة لها بالظروف التي أبعدت الأم عن ابنها ، وبدلاً من أن تلعن الأم تجار السياسة والحرب فإنها تقول بسذاجة :”من يزغرد للعريس،أم العروس ؟بصفاقة ،كأن العرس عرس ولد ذكر لها ؟ لعنها الله .لقد خلا لها الجوّ فكانت أمه و أمها”(66) .وفي مكان آخر تكون أم جميل أكثر وعياً ،و إن لم تخف كراهيتها تجاه أهل العروسة :”وانفعلت أم جميل أكثر مع موجة كراهية فجائية استشعرتها تجاه أهل العروس إذ أوقعوا جميلاً في شباكهم .و استعجلوه الزواج،و ماخلّوه ينتظر انفراج الضيق ،و انحسـار الأزمة”(67) أبو جميل ،يحقد أيضاً” و يقوم و يبصق من النافذة ،ويلعن أبا اليهود “ (68)،ولكن حقده و حقدها لم يتجاوز الشفاه و القلوب إلى الفعل ،وبقي الاثنان يمارسان حقدهما بشكل سلبي ،غير واع ،أو واعٍ إلى حدٍ ما ،و لكنه في الحالين حقد لا يحاول التغيير،بل ينتظر أن يهبط عليه الفرج من السماء .لذلك كان لابد من فهم آخر للمأساة الفلسطينية ولابد من فعل أكثر جدوى من الحقد .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش:
( 43 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ص ص 23 – 32 .
( 44 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 5 – 25 .
( 45 ) المصدر نفسه ، ص ص 83 – 93 .
( 46 ) وقصص أخرى ، ص ص 23 – 32 .
( * ) هكذا في الأصل والصواب حذف الباء .
( 47 ) المصدر نفسه ، ص 27 .
( 48 ) نفسه ، ص ص 31 – 32 .
( 49 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ص ص 5 – 25 .
( 50 ) المصدر نفسه ، ص 12 .
( 51 ) نفسه ، ص 11 .
( 52 ) ياغي ، د. هاشم : القصة القصيرة في فلسطين والأردن ( 1850 _ 1965 ) ، مرجع سابق ، ص ص 235 – 236 .
( 53 ) أبو الشباب ، د. واصف كمال : صورة الفلسطيني في القصة الفلسطينية المعاصرة ، دار الطليعة ، بيروت ، ط1 ، 1977 .
( 54 ) نفسه ، ص 81 .
( 55 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص 19 .
( 56 ) المصدر نفسه ، الصفحات 32 و 24 و 45 .
(57) نفسه ، ص 11.
(58) كنفاني ، غسان : الآثار الكاملة – مجلد القصص مؤسسة غسان كنفاني الثقافية ، دار الطليعة ، - بيروت ، ط2 ، 1980 ، ص ص 781 – 790 ، وقد أشار محمود شاهين إلى هذه الملاحظة في : الحزن الدفين – دراسة في أدب الكاتبة الفلسطينية الرائدة سميرة عزام بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لرحيلها ، ملحق فتح الثقافي ، العدد التجريبي (0) ( دمشق ، 1985 ) ص 53 .
(59) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 83 – 93.
(60) المصدر نفسه ، ص 93 .
(61) نفسه ، ص 93 أيضاً .
(62) اليوسف ، يوسف سامي : الشخصية والقيمة والأسلوب في أدب سميرة عزام ، مرجع سابق ص 63.
(63) المرجع نفسه ص 65 .
(64)  دراج ، فيصل : سميرة عزام : البحث عن الإنسان والأخلاق والوطن ، مرجع سابق  ص ص 134 – 135 .
(65) عزام ، سميرة : الظل الكبير  ص ص 37 – 54.
(66) المصدر  نفسه  ، ص 53.
(67) نفسه ، ص 52 .
(68) نفسه ، ص 50.

 

تعليق عبر الفيس بوك